وتتشعب البلاغة -بعد أن تبلورت ملامحها وتحددت معالمها - على يد السكاكي (المتوفي 626هـ\1228م) والخطيب القزويني المتوفي 739هـ\1341م) إلى ثلاثة علوم هي: المعاني والبيان والبديع. وكل من هذه العلوم يختلف في مفهومه عن كل من مفهوم العلمين الآخرين،ويدخل في دائرته مباحث تغاير كلا منهما، على الرغم من اتفاقها جميعا في أهدافها وغاياتها.
- نشأة البلاغة في كنف علوم القرآن واللغة
وقد أجمع الباحثون في تاريخ البلاغة العربية أنها لم تنشأ مكتملة الأبواب والمباحث،"وإنما نشأت شأن كل علم في بدايته مجرد أفكار وملاحظات
متناثرة على هامش العلوم العربية والإسلامية الأخرى التي سبقتها إلى الوجود والتي لم تكن بدورها قد تبلورت على نحو نهائي
وأهم هذه العلوم التي احتضنت البلاغة في نشأتها هي العلوم القرآنية والعلوم اللغوية والأدبية.
أما الصلة بين العلوم القرآنية والبلاغة فهي واضحة جلية فقد كان علماء الدراسات القرآنية في فترة تكوين العلوم الإسلامية بلاغيين بقدر ما كانوا مفسرين أو متكلمين أو لغويين وحسبنا أن نشير إلى أسماء من مثل: أبي عبيدة معمر بن المثنى (المتوفي208هـ\823م) والفراء (المتوفى207هـ) والأخفش سعيد بن مسعدة (215هـ\830م)، وابن قتيبة (المتوفي 276هـ\889م) والزجاج (المتوفي 311هـ\923م) والرماني وغيرهم من علماء اللغة والكلام والتفسير ببغداد اللذين كانوا في الوقت ذاته ممن أرسوا دعائم علم البلاغة وصنفوا كتبا كثيرة تحمل عنوان "معاني القرآن"و"وإعجاز القرآن"و"مجاز القرآن"و"تأويل مشكل القرآن"و"متشابه القرآن"وغيرها.
–وهذه المؤلفات تضم -إلى جانب العناية بالتراكيب والأساليب اللغوية- بعض الفنون البلاغية كالتشبيه والاستعارة والمجاز والكناية والاستفهام والتقديم والتأخير وغيرها.
وليس أدل على دور العلوم اللغوية في نشأة البلاغة من أن أول كتاب احتوى بعض الأفكار البلاغية المتبلورة هو أساسا كتاب لغوي، ومؤلفه من علماء اللغة وهو ابو عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصري نزيل بغداد (المتوفي 208هـ\823م) صاحب كتاب "مجاز القرآن" الذي يعده بعض مؤرخي البلاغة أول كتاب معروف من كتب البلاغة العربي وقد ذهب أحد الباحثين - بصدد حديثه عن أهمية كتاب أبي عبيدة في تأصيل العربية- إلى أنه إذا كان عبدالقاهر الجرجاني (المتوفي 471هـ\1078م) في كتابه "دلائل الإعجاز" أول من نادى من البلغاء بأن للكلام نظما تجب رعايته واتباع قوانينه عند الإبانة والإفهام وإلا عد الكلام لغوا لايدل على شيء إذا كان عبد القاهر أظهر من نادى بذلك،فإن بذور قضيته هذه (قضية النظم) كانت تكمن في كتاب المجاز لأبي عبيدة حيث رأى في زمنه السابق ما رآه صاحب الدلائل" في زمنه اللاحق.
ويضاف إلى ذلك أن كتاب"المجاز"يحمل بذورا لغراس ما عرف فيما بعد بعلمي المعاني والبديع.
ولعل أبرز تأثير للعلوم الأدبية في تلك المرحلة المبكرة من مراحل حياة البلاغة العربية والنقد الأدبي يتمثل في موسوعة عمرو بن عثمان الجاحظ البصري البغدادي"البيان والتبيين" وهذا الكتاب - الذي انتقل إلى الأندلس
احتوى على مجموعة من أهم الأصول البلاغية والنقدية الأولى
التي قامت عليها دعائم علم البلاغة والنقد فيما بعد، والتي جعلت مؤرخي البلاغة يعتبرون الجاحظ واحدا من الآباء الشرعيين الأول لهذا العلم، على الرغم من أن الكتاب لا يشتمل على نظرية علمية متكاملة، أو حتى قضايا بلاغية محددة،وإنما هي أفكار بلاغية متناثرة وسط حشد هائل من النصوص والأخبار الأدبية التي نماها البلاغيون فيما بعد، والأصول التي شادوا عليها صرح البلاغة العربية". ومن ذلك مثلا أن الجاحظ أول من عنى بالبديع وصوره وأطلقه على فنون البلاغةالمختلفة، ولكنه لم يعرفه أو يشير إلى فنونه،بل كان يطلق هذا المصطلح إطلاقا.
ومن أهم المقولات التي عول عليها الجاحظ- كما أسلفنا- هو أنه لكل مقام مقال، وهي جذر بلاغي متأصل في طبيعة اللسان العربي وأهله ..
وقد استقاها الجاحظ من كلام بشر بن المعتمر (وهو ممن يسميهم الجاحظ بجهابذة الألفاظ ونقاد المعاني)
يقول بشر: " والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة وكذلك ليس يتضع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب
وإحراز المنفعة،مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال"
¥