أما الآية الأخيرة آية الشعراء فمتعلق الرؤية فيها هؤلاء الشعراء الذين لم يؤمنوا بربهم ولم يعملوا الصالحات، وقد جاء قبل هذه الآية قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}، وقد يشك في صحة هذا بعض الناس، وقد ينكره آخرون، فجاء الاستفهام التقريري مبينا أنه حق وصدق على وجه التوكيد والاستدلال، والمعنى - والله أعلم - هؤلاء الشعراء يتبعهم الغاوون لأنهم يهيمون في كل واد على غير هدى يتبعون الشهوات ويقولون بألسنتهم الكذب.
دعيني انتقل بك إلى الصيغة الثالثة من هذه الصيغ التي أدخل فيها على (لم) النافية الجازمة لمضارع (رأى)، هذه الصيغة هي (ألم تر كيف) وقد جاءت هذه الصيغة في ثلاث آيات من آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} الآيتان 24، 25 من سورة إبراهيم.
الآية الثانية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} الآية 6 من سورة الفجر.
الآية الثالثة قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} الآية 1 من سورة الفيل.
همزة الاستفهام في هذه الآيات الثلاث معناها التنبيه بمعنى طلب التأمل والتفكر، وهذا المعنى ظاهر في الآية الأولى؛ لقوله تعالى بعد أن ضرب مثل الكلمة الطيبة: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}، والتذكر هنا معناه التأمل والتفكير والاعتبار.
أما في الآية الثانية والثالثة فقد ذكر الزركشي في كتابه البرهان [iii] (http://www.ahlalloghah.com/#_edn3)[3] أن الاستفهام في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} استفهام تنبيه بمعنى طلب التأمل والتفكير والتبصر.
وما قاله الزركشي في استفهام سورة الفيل المتقدم يقال في استفهام سورة الفجر: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ}؛ لأن صيغة الاستفهام في الآيتين واحدة، ولأن متعلق الرؤية في الآيتين واحد، فأصحاب الفيل وعاد وثمود وفرعون أمة واحدة أمة كفر وضلال وتكذيب بالرسل.
وقد رأى الجلال المحلي في تفسير الجلالين [iv] (http://www.ahlalloghah.com/#_edn4)[4] أن استفهام سورة الفيل المتقدم استفهام تعجيب، ورأى القرطبي في تفسيره [v] (http://www.ahlalloghah.com/#_edn5)[5] وأبو السعود في تفسيره [vi] (http://www.ahlalloghah.com/#_edn6)[6] رأيا أنه للتقرير بمعنى قد علمت فعل ربك بهؤلاء الذين قصدوا حرمه.
ورأيي أن ما ذهب إليه الزركشي أقرب إلى الصواب؛ لأن قصص القرآن الكريم وأخباره عمن أهلكهم الله بذنوبهم تدعو إلى الأمل والتبصر والاعتبار قبل أن تدعو إلى محض التعجيب والإخبار.
قد تسألين وتقولين: إذا كان الاستفهام في هذه الآيات داعيا إلى التنبيه قائلا للمخاطب: انظر بفكرك وتبصر؛ ففي أي شيء يكون هذا التأمل والتفكير؟.
أما الآية الأولى فتعالي وانظري إلى هذه الصورة الجميلة وتأملي ما اشتملت عليه:
الإيمان شجرة لها جذور عميقة في جوف الأرض تمتص الغذاء وتجد أسباب النماء، ثم هي ذاهبة إلى السماء بأغصانها اللدنة وأوراقها الخضر لتمتص دفء الشمس وتعب نقي الهواء؛ فلا عجب أن تثمر ثمرا شهيا في كل حين بفضل من الله وإحسان.
وهذا هو شأن المؤمن الذي استقرت في قلبه كلمة الإيمان: لا إله إلا الله، يحيا في قلبه ونفسه حياة آمنة مطمئنة، يفعل الحسنات بفضل الله ما امتد به العمر، ويعمل الصالحات بهدى منه تعالى في كل حين.
وأما في الآية الثانية فموضع التأمل والتبصر مصارع الذين ظلموا، مصارع عاد وثمود وفرعون الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وظنوا أن لن يقدر عليهم أحد، فصب عليهم ربك العذاب صبا يتذوقون طعمه تذوق المجلود طعم السياط.
¥