ملتقي اهل اللغه (صفحة 2377)

قول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأِ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}. الآية: 246 - البقرة.

أسلوب الحوار الذي جاءت فيه هذه القصة قد أكسبها حياة وحركة ووقعا عظيما في النفس وفي الحس، حتى كأنما المخاطب يرى أشخاصها وأحداثها ماثلة أمام عينيه، يرى هؤلاء القوم من بني إسرائيل أو أشرافهم يمشون إلى نبي لهم فيقولون له بحزم وعزم وحماس: "ابعث لنا ملكا يدبر شئوننا ويجمع صفوفنا ويقودنا إلى الحرب في سبيل الله".

فيسألهم النبي سؤال أن من يتوقع منهم ألا يقاتلوا فينكرون عليه ذاك التوقع، ويعجبون أن يظن بهم هذا الظن، وقد أخرجهم عدوهم إخراجا مُرًّا من ديارهم التي كانوا فيها آمنين، وانتزعهم من أبنائهم وأهليهم انتزاعا ينزف الدم والدمع.

ويجاب الطلب ويكتب القتال، ويقودهم ملكهم طالوت إلى المعركة، وكان ما توقعه ذلك النبي.

فتولوا مدبرين قد نسوا أوطانا وديارا وأبناء اتخذوها من قبل ذريعة، وأعرضوا عن جهاد مفروض كانوا قد طلبوه ولم يثبت في ميدان المعركة إلا القليل.

لقد جاء الاستفهام في {أَلَمْ تَرَ إِلَى} للتعجب والتعجيب والتنبيه.

ولقد رأيت في هذه القصة العجب، وعرفت من أين يجيء التعجب، وتدبرت ما تضمنته من عواقب.

لقد رأيت كيف يقولون ولم يفعلوا، وكيف يطلبون الجهاد رغبة من أنفسهم، حتى إذا فرض عليهم القتال ولوا مدبرين مخالفين عن أمر الله، كانوا ظالمين، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} لا يخفى عليه ظلم، وإلا ينجو من عقابه ظالم.

الآية الثالثة:

يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. الآية – 258– سورة البقرة.

التعجب والتفكير معنى همزة الاستفهام في صدر هذه الآية، وموضع التعجب والتفكير حال هذا الملك الظالم الذي آتاه الله الملك، فاستولى عليه الأشر والبطر، وأخذ يجادل إبراهيم عليه السلام ويحاول التغلب عليه في مغالطة حمقاء.

اقرئي هذا الحوار المعجب الرائع مثنى وثلاث ورباع، وتدبري كيف يعمى الظالمون عن الحق، وكيف تفقد النعم ولا سيما نعمة الملك صواب كثير من المنعم عليه، فبدل الشكر والطاعة يكون الجحود والطغيان:

{قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} وهذا القول يفيد الحصر، ومنشأ الحصر تعريف الطرفين، ومدلول هذا الحصر أن الإحياء والإماتة مقصوران على رب إبراهيم رب العالمين، لا يتجاوزانه تعالى إلى شيء آخر مطلقا؛

قال الذي حاج إبراهيم في ربه: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} يعني بذلك أنا أشارك ربك - يا إبراهيم - في الإحياء والإماتة - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا - وليس ذلك مقصورا عليه ومختصا به، ثم أحضر رجلين قتل أحدهما وأرسل الآخر، ليدل بذلك على ما ادعاه.

لقد كان في استطاعة إبراهيم عليه السلام أن يفحمه ويقول له: "أحي هذا الذي أمته"، ولكنه حين رأى منه هذه المغالطة الحمقاء آثر أن يأتي بصفة من صفات الله تعالى لا يستطيع هذا الملك الضال أن يماري فيها ويغالط {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ}.

وددت - والله - لو كنا أنا وأنت حاضرتين ذاك المجلس، لنمتع الأبصار بما ظهَر عليه حين بهت لنراه وقد أخذته الحيرة والعجز، وامتقع لونه من خزي، وبرق بصره من دهش، وحاولت شفتاه أن تنطقا بمغالطة حمقاء أخرى فلم تقدرا على شيء، لنراه وقد أطرق إلى الأرض عاجزا مغلوبا والناس من حوله ينظرون إليه باحتقار وذهول.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015