ملتقي اهل اللغه (صفحة 2376)

و {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} هم الذين كان حالهم عجبا وعبرة، ولعلك تلاحظين- يا أخت- أن الآية الكريمة عبرت باسم الموصول ولم تسم جماعه بعينها، وقالت: {مِنْ دِيَارِهِمْ} ولم تسم مكاناً معيناً كانت فيه هذه الديار. لقد ترك ذلك كله لأنه لا عبرة فيه، وإنما العبرة فيما جاء بعد في صلة الموصول وما عطف على هذه الصلة.

لاحظي كلمة {مِنْ دِيَارِهِمْ} والدار من أعز ما يملكه إنسان الحاضرة، وخروجهم منها يدل على عظم ما كانوا فيه من فزع، وهول ما كانوا فيه من خوف.

والتعبير ب {أُلُوف} وهي من جموع الكثرة، وترك التعبير بآلاف وهي من جموع القلة، يدل على أنهم كانوا كثيرين جدا لا يعلم عدتهم إلا الله.

ثم جاءت {حَذَرَ الْمَوْتِ} - وهي مفعول لأجله- تبين سبب الخروج على ما هم عليه من كثرة كاثرة.

لقد أخرجهم {حَذَرَ الْمَوْتِ} من ديارهم: من مسارح الطفولة وملاعب الصبا، من مجالس السهر والسمر، ومن مهاجع الأمن والسكينة. أخرجهم منها كالجراد المنتشر يهيمون على وجوههم، يسوقهم الخوف ويحدوهم الفزع، وقد غفلوا أو جهلوا أن الموت والحياة بيد الله، وأن الحذر لا يدفع القدر، فقال تعالى ليبين ذلك كله: {مُوتُوا} ولعلك- يا أخت- تحسين ما في هذا الأمر {مُوتُوا} من قوة وجبروت وكبرياء، فالله هو القوي الجبار المتكبر، ولعلك تلاحظين أن الآية الكريمة لم تذكر عاقبة هذا الأمر وهي أنهم قد ماتوا، لأن هذا شيء مفهوم من قوله تعالى: {مُوتُوا} فأمر الله تعالى محقق النفاذ لا يتخلف {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.

وقوله تعالى: {ثُمَّ أَحْيَاهُم} يدل بـ {ثُمَّ} على أن الإحياء لم يجيء سريعاً بعد الإماتة وإنما جاء على فترة من الموت.

وفي صيغة {أَحْيَاهُم} وفي جرس حروفها تجد النفس معاني الرحمة والفضل والإحسان. وبعد أن بين الله سبحانه وتعالى حال هؤلاء الناس الباعثة على التعجب الداعية إلى التدبر والتبصر والاعتبار قال في ختام هذه الآية الكريمة: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.

وأنت تلاحظين أن الجملة الأولى قد أكدت بثلاثة مؤكدات: إن، واللام، واسمية الجملة.

وجاء هذا التأكيد تعظيماً لشأن هذا الخبر وما اشتمل عليه، وقد يكون لتنزيل الناس منزلة المنكرين من أجل أن أكثرهم لم يكن من الشاكرين.

ولا تنسي أن تتذوقي ما في {ذُو فَضْلٍ} من قوة، فهذه الذال مع الواو ثم هذه الضاد مع اللام المرنان قد أعطت هذه الصفة جرساً فخماً ضخماً في اللفظ وفي السمع يناسب معناها العظيم. ويراد ب {النَّاسِ} الناس جميعاً فهي تشمل الذين أماتهم ثم أحياهم وتشمل غيرهم.

وقد يبادر إلى الذهن من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أن الناس جميعاً يشكرون لله ذلك الفضل العظيم، فقال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} دفعاً لهذا الذي قد يبادر إلى الذهن ويسبق في الظن، وبياناً لواقع الناس القبيح المعيب الذي قل فيه الشكر والشاكرون.

وفي إعادة لفظ {النَّاسِ} مرة ثانية مع أن المقام مقام إضمار زيادة إيضاح وبيان لهؤلاء الذين لا يشكرون، فزيادة إزراء عليهم وتشنيع.

في رسالة سلفت كتبت إليك بالصيغة الأولى من الصيغ التي تدخل فيها همزة الاستفهام على لم النافية الجازمة وهذه الصيغة {أَلَمْ تَرَ إِلَى}.

وذكرت أن معنى الاستفهام في هذه الصيغة هو التعجب والتعجيب والتنبيه، وأن المراد بالتعجيب حمل المخاطب على التعجب، وأن المراد بالتنبيه طلب التأمل والتبصر والتفكير.

وأرجو أن تتذكري هذا المعنى لهمزة الاستفهام في هذه الصيغة في آياتها الخمس عشرة التي وردت فيها إذا ما نسيت أن أذكره بعد كل آية، على أنني سأتبع كل آية ما ترين فيه موضع التعجب والعبرة.

الآية الثانية:

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015