ملتقي اهل اللغه (صفحة 2374)

ولا أخفي عليك أن للعلماء آراء متعددة في المعنى الذي جئت عليه أنا- همزة الاستفهام-في هذه الآية الكريمة:

ففي تفسير القرطبي (5) "قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ ...} والمعنى عند سيبويه تنبّه إلى أمر الذين .. "

ويقول أبو حيان الأندلسي في تفسير البحر المحيط (6): "وهذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النفي فصار الكلام تقريراً، فيمكن أن يكون المخاطب علم بهذه القصة قبل نزول هذه الآية الكريمة، ويجوز أن يكون لم يعرفها إلا من هذه الآية ومعناه التنبيه والتعجب من هؤلاء".

وقد ذكر الزركشي في كتابه البرهان (7) أن من ضروب الاستفهام التنبيه ومثل له بآيات منها هذه الآية وقال: "والمعنى في كل ذلك أنظر بفكرك في هذه الأمور وتنبه".

وقال الزمخشري في تفسيره الكشاف (8): " {أَلَمْ تَرَ} تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأخبار الأولين، وتعجيب من شأنهم، ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجب".

وفي تفسير الجلالين (9): " {أَلَمْ تَرَ} استفهام تعجيب وتشويق إلى استماع ما بعده".

ويقول صاحب الفتوحات الإلهية (10) معلقاً على قول الجلالين المتقدم: " قوله "تعجيب" أي إيقاع المخاطب في أمر عجيب غريب أي في التعجب منه، فعلى هذا يستفاد من الآية أن المخاطب لم يسبق له علم بتلك القصة قبل نزول الآية وقبل استفهام تقرير فعليه يكون المخاطب عالماً بالقصة والمقصود تقريره بها. اهـ شيخنا".

ويقول أبو السعود في تفسيره (11): " {أَلَمْ تَرَ} تقرير لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب الأخبار وتعجيب من شأنهم البديع".

ولعلك أيتها الأخت العزيزة تسألين بعد هذا كله وتقولين: وما رأيك أنت في هذه الآراء، وما الذي تختارين وترجحين؟

الرأي الذي أختاره وأرجحه هو ما تقدم أن قلته وهو أن الاستفهام هنا للتعجب والتعجيب والتنبيه، وأما الذين قالوا إنه للتقرير فلست معهم،

فالتقرير يأتي لأحد أمرين (12).

الأول: حمل المخاطب على الاعتراف بالأمر الذي استقر عنده من ثبوت شيء أو نفيه كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقّ ...} (الآية 116 - المائدة).

والثاني: تثبيت النسبة التي اشتمل عليها الاستفهام في الذهن، فإن كان المخاطب جاهلا بها فالأمر ظاهر، وإن كان عالما بها فلزيادة التثبيت، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} (الآية 6 - الضحى) وكما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}. (الآية 36 - الزمر).

ولا يبدو لي أن الاستفهام في هذه الآية الكريمة {أَلَمْ تَرَ إِلَى} جاء لأحد هذين الأمرين.

أما عدم ظهور الأمر الأول فلأن الاستفهام في هذه الآية الكريمة {أَلَمْ تَرَ إِلَى} ليس فيه حمل للمخاطب على الاعتراف بشيء، وهذا واضح يدل عليه أن ليس فيها جواب يبين المعترف به.

أما الأمر الثاني: وهو أن يكون للتقرير بمعنى تثبيت النسبة في الذهن فمبني عند من يرون الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم على أن الله تعالى قد أعلمه بهذا من قبل، أو مبني على أن الخطاب لمن سمع بقصتهم من أهل الكتاب وأرباب الأخبار، وهذا البناء على كل حال افتراض لا دليل عليه وليس من ورائه كبير فائدة.

أما من يرى أن الاستفهام هنا في {أَلَمْ تَرَ إِلَى} للتشويق فلست أرى رأيه، وقد تسألين وتقولين: ولم كان ذلك؟

فأقول: إن هذه المعاني البلاغية التي تخرج إليها أدوات الاستفهام من تشويق وتعجيب وتقرير وإنكار وغير ذلك إنها تخضع للذوق الأدبي الشخصي وليس لها قواعد موضوعة يمكن أن يحتكم إليها، وبسبب من هذا جاءت الآراء مختلفة في معنى هذا الاستفهام وفي غيره، غير أن التشويق بخاصة مع خضوعه للذوق الشخصي يعتمد على شيء من المنطق يقتضي أن يكون استفهام التشويق في جملة تامة مستقلة يجيء بعدها المشوق إليه في جملة أو جمل مستقلة أخرى، كي تتاح للنفس فرصة الانفعال والتشويق إلى ما سيأتي بعد، وذلك كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015