ملتقي اهل اللغه (صفحة 2338)

إن من يمعن النظر فى شواهد الالتفات فى القرآن، يتضح له أنها تشتمل على كثير من الأسرار البلاغية، واللطائف الأدبية، التى تهز العواطف، وتحرك الأحاسيس والمشاعرومن هذه الشواهد قوله تعالى حكاية عن حبيب النجار:" وما لي لا أعبد الذى فطرنى وإليه تُرجعون" والسياق اللغوي والاحتياج المعنوي يقتضي في الأصل أن يقول: وإليه أُرجَع"ولكنه التفت من التكلم فى قوله: " وما لى لا أعبد الذى فطرنى " إلى الخطاب فى قوله: " وإليه تُرجعون "، لكى يخرج الكلام فى معرض مناصحته لنفسه، وهو يريد نصح قومه، تلطفا وإعلاما بأنه يريده لنفسه، ثم التفت إليهم، لكونه فى مقام تخويفهم، ودعوتهم إلى الله، وأيضا فإن قومه، لما أنكروا عليه عبادته لله، أخرج الكلام معهم بحسب حالهم، فاحتج عليهم بأنه يقبح منه ألا يعبد فاطره ومبدعه، ثم حذرهم بقوله: " وإليه تُرجعون"لشمول رجوع الخلق كلهم إلى الله تعالى.

ومنها قوله تعالى: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون"والسياق يقتضي في الأصل أن يقول: فأنتم المضعفون،ولكنه انتقل من الخطاب إلى الغيبة، للمبالغة فى المدح، قال الزمخشرى: وقوله تعالى: (فأولئك هم المضعفون) التفات حسن، كأنه قال لملائكته، وخواص خلقه: فأولئك الذين يريدون وجه الله بصدقاتهم، هم المضعفون، فهو أمدح من أن يقول: فأنتم المضعفون.

وتابعه فيما ذهب إليه الألوسى - رحمه الله-.

والالتفات من محاسن الكلام لأنه انتقال من أسلوب إلى أسلوب وذلك لتطرية نشاط السامع وإيقاظه للإصغاء إلى المتكلم،ويكون تحت رعاية الاحتياج المعنوي عند المتكلم وعلامات أمن اللبس.

(4)

الأسلوب الحكيم عدول عن أصل الاختيار بالضابط المعنوي

الأسلوب الحكيم هو تلقي المخاطب بغير ما يترقبه،بترك سؤاله والإجابة عن سؤال اّخر لم يسأله،أو بحمل كلامه على غير ما كان يقصده، فالسائل يسأل بما هو أهم عنده،والمجيب يجيب بما هو أهم عنده، عدولا عن أصل الاختيار من أجل الهدف المعنوي.

فمن ذلك قوله تعالى:" يسألونك عن الأهلة" والإجابة التي يقتضيها السؤال هي: الأهلة كذا وكذا، أي بيان حقيقة هذه الأهلة، لأنهم سألوا عن حقيقة الأهلة وتغيراتها، ولكن الإجابة كانت ببيان الهدف من هذه التغيرات حيث قال تعالى:"هي مواقيت للناس والحج"

ويمكن أن نصوغ الأصل والعدول كما يلي

يسألونك عن الأهلة، قل هي كذا وكذا ---------- الأصل

يسألونك عن الأهلة، قل هي مواقيت للناس والحج-----العدول

والهدف من هذا العدول عن أصل الاختيار على المحور التنويعي للغة هو هدف معنوي، وهو التنبيه على أن الأولى هو السؤال عن أسباب تغير الأهلة.

فالمجيب يتحدث بما هو أهم وبما تقتضيه الحاجة المعنوية.

(5)

دور الاحتياج المعنوي في المجاز المرسل

يتحكم الاحتياج المعنوي في نقل الكلام من الحقيقة إلى المجاز كما هو الحال في الجملتين التاليتين:

نقول:يشرب عليٌّ العصيرَ.

ونقول: يشرب عليٌّ التفاحةَ.

الجملة الأولى جملة حقيقية،مبنية على الفعل يشرب،وهذا الفعل يشير إلى أو يدل على فاعل يقوم بالشرب،وعلى شيء يٌشرَب وهو العصيرمثلا،وعندما نذكرهذا الفعل فلا بد أن نعطيه فاعلا يَشرب كـ"علي" ومفعولا يُشرب كالعصير أو الشاي أو القهوة ..... إلخ، وعندما نذكر هذا الفعل للمستمع فإنه يتوقع منا أن نذكر له فاعلا يشرب كعلي ومشروبا كالعصير، لأن اللغة تقوم على الاحتياج المعنوي وعلامات أمن اللبس،وهذا ما حصل في الجملة الأولى، والجملة الأولى من مستوى المستقيم الحسن من حيث الصحة الدلالية.

أما الجملة الثانية فهي من مستوى الكلام المستقيم الكذب من حيث الصحة الدلالية لأنني بنيت على الفعل"يشرب" شيئا يؤكل،لأن التفاح في الحقيقة لا يُشرَب بل يؤكل ولكننى قصدت أن أقول: إن علي يشرب ما كان تفاحا،وهو ما نسميه في اللغة العربية المجاز المرسل على اعتبار ما كان، وهذا المجاز نتج عن الاستبدال اللغوي على المحور الرأسي،وهذا الاستبدال كذلك أدى إلى نقل الكلام من الحقيقة إلى المجاز لأنه لا يوجد احتياج معنوي بين الفعل يشرب وبين التفاح في الحقيقة، ومثله قوله تعالى"إني أراني أعصر خمرا" والخمر لا يُعصر،والذي يعصر هو العنب،أو ما نسميه مجازا مرسلا على اعتبار ما سيكون وهو من البلاغة.

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015