ـ[صالح العَمْري]ــــــــ[08 - 09 - 2013, 03:30 ص]ـ
بارك الله فيكم، وشكر لكم.
(وقد عيبَ على أبي الطيّب قولُه:
نظرتُ إلى الذينَ أرَى ملوكًا * كأنَّك مستقيمٌ في مُحالِ
وكان ذلك بحضرة سيف الدَّولة. فقيلَ له: إنَّما يُقابَلُ المستقيمُ بالمعوجِّ، والصّناعةُ تقتضي أن تقولَ: كأنَّك مستقيمٌ في اعوجاجِ. فقال له سيفُ الدَّولة: لو أنَّ القافيةَ جيميَّةٌ؛ كيفَ كنتَ تصنعُ في البيتِ الثَّاني؟ فقال أبو الطيّب من غيرِ رويَّةٍ: كنتُ أقولُ:
فإن تَفُقِ الأنامَ وأنتَ منهم * فإنَّ البيضَ بعضُ دَمِ الدَّجاجِ
فاستحسنَ ذلك مِن سرعةِ بديهتِه).
قرأت قديما قصة تشبه هذه جدا، وقد أنستنيها الأيام والليالي، فلما قرأت هذه القصة التي أوردتموها ذكرتها، والذي سأنقله كلام طويل، لكنه جميل جدا، وفيه إبداع وذكاء وجمال، فما أنفع قراءة هذا الفصل البديع، وما أبلغ شحذها للأذهان!
أنشد أبو العلاء المعري في (رسالة الغفران) بيتين للنمر بن تولب العكلي رضي الله عنه، وهما:
ألمّ بصحبتي وهم هجوعٌ * خيالٌ طارقٌ من أمّ حصن
لها ما تشتهي عسلاً مصًّفى * إذا شاءت وحُوَّارَى بِسَمْنِ
ثم قال أبو العلاء بعدهما:
"وهو -أدام الله تمكينه- يعرف حكاية خلفٍ الأحمر مع أصحابه في هذين البيتين، ومعناها أنّه قال لهم: لو كان موضع أمّ حصن أمُّ حفص، ما كان يقول في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال: (حوّارى بلمص)، يعني الفالوذ.
[انتهت حكاية خلف الأحمر مع أصحابه، والتفريع الآتي لأبي العلاء، جاء به على حروف الهجاء التسعة والعشرين.]
ويفرّع على هذه الحكاية فيقال:
[1] لو كان مكان أمّ حصن أمُّ جزء وآخره همزةٌ، ما كان يقول في القافية الثانية؟ فإنّه يحتمل أن يقول: وحوارى بكشءِ، من قولهم: كشأت اللحم إذا شويته حتى ييبس، ويقال: كشأ الشواء إذا أكله.
أو يقول بوزء، من قولهم: وزأت اللحم إذا شويته.
ولو قال: حوَّارى بنسء، لجاز وأحسن ما يتأؤّل فيه، أن يكون من نسأ الله في أجله، أي لها خبزٌ مع طول حياة، وهذا أحسن من أن يحمل على أن النسء اللبن الكثير الماء، وقد قيل: إن النسء الخمر، وفسروا بيت عروة بن الورد على الوجهين:
سقوني النّسء ثم تكنَّفوني* عداة الله من كذبٍ وزور
ولو حمل حوّارى بنسء، على اللبن أو الخمر لجاز، لأنّها تأكل الحوارى بذلك، أي لها الحوَّارى مع الخمر، وقد حدّث محدّثٌ أنه رأى بسيل ملك الروم وهو يغمس خبزاً في خمرٍ ويصيب منه.
ولو قيل: حوَّارى بلزء، من قولهم: لزأ إذا أكل، لما بعد، وتكون الباء في بلزء بمعنى في.
[2] ولا يمكن أن يكون رويُّ هذا البيت ألفاً، لأنّها لا تكون إلاّ ساكنة، وما قبل الرويّ ها هنا ساكنٌ، فلا يجوز ذلك.
[3] فإن خرج إلى الباء: من أمّ حرب، جاز أن يقول: وحوَّارى بصرب، وهو اللبن الحامض.
ويجوز بإرب، أي بعضوٍ من شواءٍ أو قديد.
ويجوز بكشب وهو أكل الشواء.
[4] فإن قال: من أمّ صمت، جاز أن يقول: وحواري بكمت، يعني جمع تمرةٍ كميت، وذلك من صفات التمر، وينشد للأسود ابن يعفر:
وكنت إذا ما قرَّب الزاد مولعاً * بكلّ كميتٍ جلدةٍ لم توسَّف
وقال الآخر:
ولست أبالي بعدما اكمتَّ مربدي * من التمر، أن لا يمطر الأرض كوكب
ويجوز وحوَّارى بحمت، من قولهم: تمرٌ حمتٌ، أي شديد الحلاوة.
[5] فإن أخرجه إلى الثاء فقال: من أمّ شثّ، قال: وحوَّارى ببثّ، والبثُّ: تمرٌ لم يجد كنزه فهو متفرق.
[6] فإن أخرجه إلى الجيم فقال: أمّ لجّ، جاز أن يقول: وحوّارى بدجّ، والدُّجُّ: الفرُّوج، جاء به العمانيُّ في رجزه.
[7] فإن خرج إلى الحاء، فقال: من أمّ شحّ، جاز أن يقول: وحوارى بمحّ، وببحّ، وبرّح، وبجحّ، وبسحّ.
فالمحُّ: محّ البيضة، وبحُّ: جمع أبحَّ، من قولهم: كسرٌ أبحُّ، أي كثير الدّسم، وقال:
وعاذلة هبَّت عليَّ تلومني* وفي كفّها كسرٌ أبحٌ رذوم
ويجوز أن يعنى بالبحّ القداح، أي هذه المرأة أهلها أيسار، كما قال السُّلميُّ:
قروا أضيافهم ربحاً ببحّ* يعيش بفضلهنَّ الحيُّ، سمر
ورحٌّ: جمع أرحَّ، وهو من صفات بقر الوحش، أي يصاد لهذه المرأة، ويقال لأظلاف البقر: رحٌّ، قال الشاعر الأعشى:
ورحٌّ بالزّماع مردَّفاتٌ* بها تنضو الوغى وبها ترود
والسحُّ: تمرٌ صغير يابس. والجحُّ: صغار البطيخ قبل أن ينضج.
[8] فإن قال: أمُّ دخّ، قال: حوَّارى بمخّ، ونحو ذلك.
¥