وقد ذهب بعضهم إلى أنه يشكل مرحلة وسطى بين مرحلتين، المرحلة الأولى: مرحلة الاحتكام إلى المعاني، وقياس الأدب بجودتها، ووضوحها وفخامتها؛ والمرحلة الأخرى، مرحلة العناية بالصورة الأدبية أو مرحلة تصنيع الأدب وصبغه بالصبغة البيانية، وربما يكون ثمة موضوعية أكثر لو ذهب المرء مع من يجعل الكتاب ضمن الخطوات الأولى في علم البديع أو علم البلاغة -بصورة أشمل- وفي هذا الصدد عدّه د. حنفي محمد شرف من أصول البلاغة، وعدّ كتاب قدامة نقد الشعر امتداداً له، انطلاقاً من أن ثعلباً جمع في كتابه الألوان البلاغية التي عُرفت إلى عصره، ولم يزد ابن المعتز إلا ألواناً ادعى أنه اكتشفها أو نسب اكتشافها إليه. ويؤيد ذلك الباحث عبدالرحيم الشياب عندما أشار إلى أن هذه الألوان أو المصطلحات لم تكن من اختراع ابن المعتز، إنما كانت معروفة عند سابقيه.
ولا يمكن الجزم بصحة قول من قال: إن هذا الكتاب هو المحاولة الأولى في ميدان الدراسة البيانية للشعر؛ لأننا لا نعرف بالتحديد متى ألّف ثعلب كتابه هذا، وإن كان هناك من أشار إلى أن كتاب البديع قد سبق كتاب قواعد الشعر، لذلك على المرء أن يكون حذراً في مثل هذه الآراء الخلافية.
ولا يبتعد د. عبدالرحمن ياغي عن الصحة عندما جعل من قواعد الشعر أحد الكتب التي مثلت أحد الاتجاهات في القرن الثالث الهجري، وربما يعني: الاتجاه المتعصب للقديم، يحاكَم على أساسه، ويقيَّم ضمن إطاره.
وأخيراً، فإن أهمية هذا الكتاب تنبع من محاولة دراسة النص الشعري دراسة علمية تصنيفية، مستعيناً بالمعارف التي عاصرته، وهو لا يخرج عن كونه مجموعة من الأصول والقواعد التي أخذ به اللغويون أمثاله في أثناء تعرضهم للشعر، وحكمهم عليه باعتبارات لغوية على حد تعبير د. هند حسين طه.
هذه الصفة العلمية أساسها اقتصار الكتاب على موضوع واحد هو الشعر، إضافة إلى التنظيم والتسلسل في التعامل مع الموضوعات. ولو أراد المرء أن يقيّم هذا الكتاب بالرجوع إلى معايير نقدية علمية منهجية، لذهب مذهب مندور في عدم إدخاله في النقد بمعناه الصحيح.
يبدأ الكتاب بفصل يعدد فيه قواعد الشعر، وهي عنده أربع: أمر، ونهي، وخبر، واستخبار، موضحة بالشواهد والأمثلة، ولا يعدو مفهومه لهذه الأشياء أو الأساليب الفهم العادي والسائد. ثم يذكر فنون الشعر التي شملت المدح والهجاء، والمراثي، والاعتذار، والتشبيب، والتشبيه، واقتصاص الأخبار. بعد ذلك تناول عدداً من قضايا البلاغة دون الاهتمام بخصوصية هذه المصطلحات، أو بلاغيتها، كالتشبيه الجيد، والإفراط أو الغلو في المعنى، أو المبالغة، وجيد المدح، ثم لطافة المعنى، معتمداً على إيراد تعريف مختصر لكل قضية، وعلى إيراد الكثير من الشواهد والأمثلة.
ولم ينسَ الاستعارة التي شغلت حيّزاً كبيراً في نقدنا العربي، فعقد لها فصلاً، ومثلها حسن الخروج، أو حسن التخلص، ثم الطباق وهو ما سمّاه مجاورة الأضداد، وربما كان ثعلب أول من استخدم هذه التسمية.
وختم هذه القضايا بحديث عن جزالة اللفظ، واتساق النظم، ومن ثم عرّج إلى أقسام الشعر بعد أن استوفى حديثه عن القضايا العشر السابقة.
وقد وُصف الكتاب عموماً بأنه يتسم بغرابة المنحى وسذاجته معاً، وبالتفرد في كثير من المصطلح النقدي، وبطريقة تميل إلى الإيجاز والنهج التعليمي الذي لا يعنى بالتفصيلات بحيث يتحدث عن أشياء عديدة، كل ذلك في سطور وبانتقال مفاجئ من موضوع إلى آخر.
يبدو أن فهم ثعلب لقواعد الشعر فهم غير فني، ولا نقدي بقدر ما هو فهم لغوي، لا يخلو من خلط، فهو يفاجئ القارئ بجعل هذه القواعد: أمراً، ونهياً، وخبراً، واستخباراً. وهذه الأمور الأربعة لا تختص بالشعر حسب، إنما هي معاني الكلام عموماً، ولعلّ ابن فارس كان من الأوائل الذين عقدوا لها باباً، وكانت لديه عشرة، هي: خبر واستخبار، وأمر ونهي، ودعاء وطلب، وعرض وتحضيض، وتمنّ وتعجّب. أما ابن قتيبة فجعلها أربعة وهي: أمر وخبر، واستخبار ورغبة. وكرّر ذلك في عيون الأخبار.
ويظهر أن بعض المحدثين عمد إلى عبارة قواعد الشعر، فأوّلها على أن ثعلباً قصد بها قواعد الكلام وأنواعه ولم يقصد الشعر تحديداً، إنما قصد الكلام الذي هو مادة الشعر، وعليه استنتج الباحث أن ثعلباً عالج في كتابه أنواع الكلام عموماً، وقسّمه إلى أمر، ونهي، وخبر، واستخبار ..
وحقيقة الأمر أن ثعلباً يقصد الشعر بالذات، وهو هنا يتفرد بهذه القواعد في دراسته للشعر، ولم يعهد النقد العربي القديم هذه الأربع قواعد للشعر. والأغلب أن نزعة ثعلب في العودة إلى القديم هي ما أرجعه إلى الأصول النحوية التي وضعها الخليل وغيره من النحاة، وهو في محاولته لتحديد قواعد الشعر يبدو متأثراً بتقسيمات النحويين ولغتهم وأسلوبهم ونزعتهم التعليمية، بل ظهر أنه غير قادر على تجاوز مجال اختصاصه، إن جاز التعبير، وهو في عرضه لهذه القواعد لا يعمد إلى شيء من التنظير، إنما يقتصر على الشواهد مما يدل على عدم وجود مفهوم خاص له بالنسبة لها.
الرأي - 11/ 02/2010