ملتقي اهل اللغه (صفحة 11603)

صفاء النص الخطابي، ووحدة الغرض فيه، وأهم العوامل التي شكلت وحدة الغرض في النص الخطابي العربي هو الإيجاز، وقصر الفقرات، وهذا ما أشارت إليه الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي أمرت الخطيب بتقصير السياق النصي للخطبة، وقد توصل الباحث في ختام عرضه لهذا العنصر أن النص الخطابي الإسلامي كان منسجم الأفكار، منسق العبارات، واضح المقصد والهدف، ويتجنب الألفاظ المبهمة الدلالة، ويبتعد عن المعاظلة في التركيب، وقد شذت بعض النصوص عن هذا التصور، ومن شواهد هذا الشذوذ ما رواه ابن قتيبة من أن عبد الرحمن بن عثمان الثقفي قد أكثر، وأطنب في خطبته التي يؤيد فيها جعل ولاية العهد ليزيد بعد معاوية.

وأما المتلقي فهو الشخص الذي يوجه إليه الخطاب، وهو الذي إليه تحيل الغاية،أو الهدف من الخطبة-على حد التعبير الأرسطي-، وقد وضع «يوس»،و «آيزر» رائدا مدرسة «كونستانز» الألمانية هيكلاً نظرياً لما يُسمى بجمالية التلقي، وهي نظرية توفيقية تجمع بين جمالية النص، وجمالية تلقيه، استجابة إلى تجاوبات المتلقي، وردود فعله باعتباره عنصراً فعالاً وحيّاً، يقوم بينه وبين النص الجمالي تواصل وتفاعل فني، ينتج عنهما تأثر نفسي ودهشة انفعالية، ثم تفسير وتأويل، فحكم جمالي استناداً إلى موضوع جمالي ذي علاقة بالوعي الجمعي.

ولا ريب في أن الخطباء المسلمين قد أجادوا أيما إجادة في حسن التخلص، وعرض الحجج العقلية، والدينية، والأقيسة المنطقية، وقد عبرت شهادة مالك بن دينار-الزاهد المعروف- في حديثه عن الحجاج تعبيراً صادق إذ رُوي عنه قوله: «ربمّا سمعت الحجّاج يخطب ويذكر أهلَ العراق وما صنعَه بهم، وما صنعوا به، فيقع في نفسي أنّهم يظلمونه، وأنّه صادق لبيانه، وحُسن تخلُّصه بالحُجَج».وقد احترم الخطيب المسلم رغبات جمهوره الذي كان يهتز لسماع الكلمة المنتقاة، لذلك كان بعض الخطباء يتخيرون ألفاظهم، ويحبّرون خطبهم من غير تكلف إرضاءً للجمهور، فقد روى الطبري عن الخليفة عمر بن الخطاب-رضي الله عنه- قوله في مجتمع سقيفة بن ساعدة: «أتيناهم وقد كنت زوّيت كلاماً أردت أن أقوم به فيهم ...».،ورُوي عن الخليفة عثمان-رضي الله عنه- أنه صعد المنبر يوماً ليخطب فأرتج عليه فقال: «إن أبا بكر وعمر كانا يُعدان لهذا المقام مقالاً، وأنتم إلى إمام عادل أحوج منكم إلى إمام خطيب».

كما تعرض الباحث لموضوع التداخل بين آليات الفنون الشفوية، فأشار من خلال هذا العنصر إلى أن الكثير من الباحثين اندفعوا إلى جعل الوصية، والمناظرة نوعين من أنواع الخطابة، ورأى بأن الباحث أحمد زكي صفوت كان من أوائل الباحثين العرب المحدثين الذين أدخلوا الوصايا والمناظرات في باب الخطب، وتبعه في ذلك بعض الدارسين مثل: الدكتور إحسان النص، الذي جعل الخطابة أبواباً متنوعة. وقد تعرض الباحث للسمات الفاصلة والجامعة بين فني الخطابة والوصية، فرأى أن السمات الجامعة تظهر من حيث إن هناك تشابهاً بين هذين الفنين على المستويين الوظيفي والبنائي، وتتضح السمات الفاصلة كذلك من حيث التباين بينهما في الوظيفة والبناء. وعرض للسمات الجامعة والفاصلة بين فني الخطابة والمناظرة، وفي ختام البحث قدم الباحث أهم النتائج المتوصل إليها، فأشار إلى أن هناك جُهوداً بُذلت للتأطير النظري للخطابة، غير أن بعض النقاد قد مالوا إلى دمج آليات الفن الخطابي بنسيج الفن الكتابي تارة، ونسيج الفنون النثرية الشفوية تارة أخرى، لذلك فالباحث سعى إلى وضع الحدود الفاصلة بين الفنون، وحاول كشف ما في الآليات البنائية والوظيفية للفن الخطابي من تميز وتفرد، وعلى الرغم من أن الجهود النقدية لم تأت بتعريف حدي فاصل للخطابة إلا في مرحلة متأخرة من حياة النقد العربي، غير أن تفحص النصوص اللغوية والنقدية أظهر أن الخطابة فن من الفنون اللسانية الذرائعية التي تحقق وظائف نفعية، وقد أسهمت جهود الجاحظ على وجه التحديد بتوضيح طبيعة النص الخطابي العربي السائد في عصره، وعصور الأدب التي سبقته، كما أشار الباحث إلى أن النقاد قد أرسلوا الكثير من الإشارات التي تساعد على توضيح أركان عملية الاتصال الخطابي، وتحديد عناصرها، ومكوناتها الأساسية، كما نبه النقاد إلى العفوية التي يتسم بها الخطيب العربي، علاوة على ما يكشف عنه السياق النصي من أصباغ فنيّة مختلفة أضافها الكُتّاب إلى اللفظ، فتمازجت فيما

¥

طور بواسطة نورين ميديا © 2015