وانطلاقاً من هذه المعطيات حاول الباحث أن يُقدم دراسة علمية منهجية لإنتاج ابن دريد الأدبي واللغوي، فهو يرى أنه لابد من تحليل شعر ابن دريد منفصلاً عن الرواية واللغة، فشخصية ابن دريد تضم ثلاثة جوانب معرفية متباعدة، ولا تضم تجليات لشخصية إبداعية واحدة لا تتجزأ، فتعرض لثلاثة عناصر رئيسة هي:
ابن دريد الشاعر: فأشار في هذا العنصر إلى أن الشعر الذي نعرفه عن ابن دريد الأزدي يقتصر على الأمرين الآتيين: الأمر الأول وهو المقصورة، وهي الأرجوزة الطويلة ذات الروي المقصور، وقد اختلف في ترتيب أبياتها، وفي عددها. وأما الأمر الثاني فهو ديوان ابن دريد الأزدي، حيث ذكر القِفطي في: «إنباه الرُّواة على أنباه النُّحاة» أن هناك ديواناً ضخماً لابن دريد في خمسة أجزاء، ولكن هذا الديوان ضاع في جملة ما ضاع من تراثنا العربي، وما عُرف بديوان ابن دريد فهو لا يعدو أن يكون مجموعة من القصائد، والمقطوعات، والأبيات، التي ذُكرت في مختلف كتب الأدب، وقد نهض بعبء استخراجها من مظانّها وترتيبها السيد محمد بدر الدّين العلوي سنة:1946م، وقد حوى هذا الديوان تسعاً وستين قصيدة ومقطوعة لابن دريد، سماها العلويّ: ديوان ابن دريد، ورتبها بحسب رويّها ابتداءً بالهمزة وانتهاءً بالياء، وذيلَّها بالمربَّعة وبثلاث مقطوعات وباللاميّة، وفي سنة:1973م أعاد عمر بن سالم ترتيب القصائد والمقطوعات بحسب موضوعاتها ترتيباً ألفبائياً بحسب رويّها، وقد ضم هذا الديوان الشعر الذي جمعه العلوي، إضافة إلى القصيدة المثلَّثة، ومقطوعة من أربعة أبيات، عثر عليهما ابن سالم، وأضافهما إلى الديوان الذي صنعه. وقد أشار الباحث إلى أنه بالمقارنة بين المقصورة والديوان، فإن الإجماع يقع على أن المقصورة هي أهمّ إنجاز شعريّ لابن دريد، وتليها في الأهمية ثلاث قصائد من الدّيوان، هي المربَّعة والمثلَّثة والهمزيّة. وقد لقيت المقصورة اهتماماً كبيراً منقطع النظير من قبل القدامى، تجلى في معارضتها وشرحها، وإعرابها، وتخميسها، وتسميطها. وامتدَّ الاهتمام بالمقصورة إلى المعاصرين فحلّلوها، ومن بينهم: مصطفى السّنوسيّ، وأحمد درويش، بل إن أحمد عبد الغفور خصَّها بكتاب مستقل، كما خصَّها مؤتمر ابن دريد الأزديّ الذي عقدته جامعة آل البيت الأردنيّة وسفارة سلطنة عُمَان في الأردن بمحور خاص.
ومن خلال العنصر الثاني الذي قدمه الباحث، والموسوم ب: «ابن دريد الرّاوية»،أشار الباحث إلى أن ابن دريد قد عُرف بأنه راوية للأشعار والأخبار واللّغة، فقد روى كتباً كاملة من بينها: كتاب النَّبات، وفحولة الشعراء، ومعاني الشِّعر، والقصيدة اليتيمة، ومسالمات الأشراف، وغيرها من الكتب والرسائل التي سمعها ابن دريد من أساتذته، ويرى الدكتور سمر روحي الفيصل أن هذا النّوع من الرّواية يُصنَّفُ في باب وفاء ابن دريد لمن تلقّى العلم عندهم تلقياً مُباشراً كالأشناندانيّ، أو غير مباشر كالأصمعيّ الذي روى ابن دريد كتابه فحولة الشّعراء عن أستاذه أبي حاتم السجِّستاني، وأما الكتب الأخرى التي رواها ابن دريد، فالدافع الرئيس لذلك هو رغبته في الحفاظ على تلك الكتب، التي كان مصيرها الضياع لولا روايته لها، وهذا يدل على الأعمال الجليلة، والخدمات الجمة التي قدمها ابن دريد بغرض إحياء تراث أساتذته، وهو ما تجلى فيما بعد مع أعماله التي حافظ تلاميذه عليها، ونهضوا بعبء رواية كتبه.
وبالنسبة للعنصر الثالث، فقد خصه الباحث للحديث عن: «ابن دريد اللغوي»،فأكد على أن نزوع ابن دريد إلى التّجديد واضح جدّاً في عمله اللّغويّ، غير أن بعض معاصريه لم يُقدر ذلك، ويُنعم النظر في مؤلفاته اللغوية، فراح يكيل له التُّهم، ويصفه بما يحطُّ من مكانته اللغوية، ومن أهم جهود ابن دريد اللغوية التي بذلها رغبته في أن يتعرَّف تلاميذه على اللغة عن طريق آثارها الأدبيّة، فكتب لهم كتاب: «المجتنى»،وقد حرص فيه على تقديم فنون شتى من الأخبار والألفاظ والأشعار والمعاني والحِكم والأحاديث، بأسلوب يتسم بالإيجاز، والدّقّة، والوضوح، وهدف ابن دريد من تأليف كتاب: «المجتنى» لم يصل إليه بعض معاصريه، فحكموا على الكتاب بأنه رسالة أخبار وأشعار وطرائف، بينما غفلوا عن أسلوب ابن دريد في رواية هذه الأخبار القائم على تقديم الآثار اللغوية المعترف بفصاحتها وجمالها لتكون مثلاً أعلى بلاغيّاً يحتذيه القرّاء
¥