حقيقتها نقد لاذع لطبقة التجار وأسلوب هذه الطبقة في الحياة: فالتاجر يسكن في دار في أشرف محلة ببغداد، وكل شيء فيها يدل على الرفاهية والعز والغنى، ولكن صاحبها قد حصلها من شاب أفلس، بالخديعة والحيلة، ثم هو لا يستنكف أن يعرف بأن امرأة فقيرة ألجأها فقر إلى بيع عقد كان لديها بأبخس الأثمان، وأن الحصير المفروش في الدار إنما اشتري " وقت المصادرات وزمن الغارات " (?) ، وأن الأبريق إنما اشتراه مالكه عام المجاعة بثمن بخس أيضا، وهكذا يظل البديع يغمز من " وصولية " هذه الطبقة وقدرتها على انتهاز الفرص، بما لا يدع مجالا للشك في أن غايته الأولى؟ في إطار المقامة - هو النقد الاجتماعي، وكل ما يجيء بعد ذلك فإنما هو مكمل للموضوع الأساسي أو هوامش تحلية على جوانبه.
إن الغاية الأساسية في هذه المقامة ربما لم تجد من يفهمها على حسب دلالتها الصحيحة، بين من تأثروا بها، ولكن ما يهمنا في هذا الصدد، هو أن هذا الشكل الأدبي قد وجد صالحا لاستيعاب جوانب من الحكمة اليونانية والفكر اليوناني أيضا. ولعل أوضح محاولة في هذا السبيل هي ما قام به ابن بطلان. ففي كتاب " دعوة الأطباء " (الذي ألفه ابن بطلان سنة 450) أثر كبير من المقامة في الشكل بوجه عام ومن المقامة المضيرية على وجه الخصوص. أما ما جاء في مقدمة الكتاب من أنه صيغ على أسلوب كليلة ودمنة، فذلك ضرب من الوهم لا يثبت للفحص أبدا، وقد سماه القفطي " مقامة " (?) ، وسماه ابن أبي أصيبعة " رسالة " (?) ، والتسمية الأولى أدق، والثانية جائزة من حيث شمول مدلول الرسالة، وقد احتذى ابن المطران حذوه فيها في كتاب ألفه (?) .