به، من حيث التحقيق والتوثيق وحسن الإخراج، فلم تكن مناهج تحقيق النصوص قد استقرت، ولم تكن وسائل الطباعة الحديثة قد عُرفت، ومع كل ذلك فقد أقام هذا الكتاب "المطبوع" المحدود، الساذج في إخراجه، حضارة سامقة، أضاءت ديار العرب والإسلام كلها، وما أشبه أدباء ذلك الزمان إلا بتاجر صنع، بيده رأس مال محدود، ولكنه استطاع بلباقته وحسن تأتيه أن يحرك هذا المال المحدود، ويغدو به ويروح، ليصنع منه ثروة ضخمة.

كان هذا هو طريق الجارم وأدباء زمانه، أخلصوا أيامهم للقراءة والتحصيل، ووعت ذاكرتهم هذه النغمات الجليلة التي حملها بديع الشعر وكريم النثر، في موروثنا الحافل. وحين تهيأت لهم أدوات القول والإبانة، خالط الطارف التليد، وذاب مال المورث الجامع في مال الوارث الرشيد، أو كما قال صديقنا عبد اللطيف عبد الحليم، عن شاعرنا الجارم: "ويطل على هذا المحفوظ المذخور من عل، فإذا بمحفوظه يتوارى ليبرز كلامه هو".

وإذا كانت هذه الكلمة اليوم عن "علي الجارم" اللغوي النحوي؛ فإن ذلك يلتمس من جانبين: الجانب الأول: نشاطه التأليفي والبحثي، من حيث هو معلم للغة العربية، ثم كبير مفتشي اللغة العربية بوزارة المعارف المصرية، ثم من حيث هو عضو مؤسس من أعضاء مجمع اللغة العربية.

والجانب الثاني: إبداعه الشعري، من حيث هو شاعر كبير، في شعراء عصره، وشعراء ذلك الزكان كانوا -كما قلت- من اللغة والنحو بمكان مكين.

وقبل الحديث عن هذين الجانبين، أود أن أشير إلى شئ من تلك المكانة اللغوية التي اقتعدها الجارم عند علماء عصره، فهذا الشيخ أحمد محمد شاكر القاضي الشرعي، وهو محدث العصر، وواحد من مدرية الأفذاذ في تحقيق النصوص ونشرها يذكر أنه كان يلجأ إلى علي بك الجارم، وبعرض عليه عمله في تحقيق كتاب "الرسالة" للشافعي، وكان مما عرضه عليه كلمة "النذارة" وهي مضبوطة في المخطوطة بكسر النون، ولم يرد ذلك في المعاجم المتداولة، ولكن المخطوطة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015