الشعر باب العربية، والشعراء الكبار هم أقدر الناس على معرفة أسرار العربية، والوقوف على دقائقها، ثم الحرص عليها والذود عنها، وما كان ذلك إلا لأنهم قرأوا فأكثروا القراءة، وحفظوا فجودوا الحفظ، ولن تجد شاعراً كبيراً إلا ووراءه رصيد ضخم من القراءة المحيطة الجامعة للغة في مجالاتها المختلفة، ويظهر هذا الرصيد فيما يسميه أهل زماننا "المعجم الشعري" للشاعر: حروفاً وأبنية وتراكيب ودلالة.
على الجارم "رحمه الله" واحد من كبار الشعراء الحفظة العلماء الضابطين، وكانت هذه سمة الجيل كله، شعراء وناثرين، مع تفاوت يسير بينهم، برزق الله المقسم على خلقه. نعم كان هذا الجيل جيل الجد والتحصيل، جيل لم يرفع عينه عن القراءة، ولم يشغله عنها حديث وثرثرة عن التجربة والإبداع والخلق والمعاناة، فإن من الملاحظ الآن أن الأدباء والشعراء يتكلمون أكثر مما يقرأون، ويستمعون أكثر مما يتأملون، وقد قال ابن قيم الجوزية: "من لم تنفعه عينه لم تنفعه أذنه".
وأنت إذا نظرت إلى ما كان بيد ذلك الجيل من الكتاب المطبوع، وجدته شيئاً نزراً قليلاً، ولكن هذا النزر القليل صنع رجالاً، وشاد ثقافة. واليوم كثرت المطبوعات، وقلَّت القراءة.
وداعية أخرى إلى العجب: أن الكتاب المطبوع في ذلك الزمان لم يكن معتنى