المطوية تحت جناحه، وقد جاءت كتب التفسير كلها بعد ذلك دائرة في فلك علوم العربية كلها، إلا ما قد يكون عند مصنفي التفسير من غلبة فن على فن، فالطبري يغلب عليه الاهتمام بالآثار وتفسير القرآن في ضوئها، والزمخشري يميل إلى البلاغة، والقرطبي يغلب عليه الاهتمام بالفقه والأحكام، والفخر الرازي يهتم بعلم الكلام وما إليه من العلوم العقلية، والواحدي يغلب عليه الغريب -أي علم الغريب في القرآن، من حيث اللغة- والثعلبي يحتفل بالقصص.
وبذلت لم يحظ كتاب سماوي بمثل ما حظي به هذا الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، من التأليف من لغته ونحوه وبلاغته وقراءاته وأشباهه ونظائره وناسخه ومنسوخه وفضائله، سيل متدافع من الكتب: طوالها وأواسطها ومختصراتها، بحيث أصبح من السهل اليسير على من يريد معرفة معنى لفظ من ألفاظ القرآن الكريم، أو معنى عام منه، أو حكم من أحكامه، أن يجد بغيته من أيسر سبيل، ولم يقصر علماؤنا رضوان الله عليهم في كشف المشكل وإيضاح المبهم. لكن قوماً ضعفت سلائقهم العربية، أو قعدت بهم هممهم فتكاسلوا عن البحث والتفتيش والمراجعة، فسروا بعضاً من القرآن العزيز بآرائهم، ومن عند أنفسهم فضلوا وأضلوا، حين تابعهم الناس على هذه الوجوه من التفسير، وهذه لآفة الآفات.
وهذا هو الذي أراده الجاحظ بقوله: "وإنما يؤتي الناس من ترك التثبت وقلة المحاسبة"، انظر: الأوائل للعسكري 1/ 333، وهو أيضاً ما قاله الشيخ عبد القاهر: "وتلك جريرة ترك النظر وأخذ الشيء من غير معدنه"، دلائل الإعجاز ص 361.
ويلاحظ أن معظم وجوه الخطأ في تفسير القرآن الكريم تأتي من سرعة الاستشهاد بالآية القرآنية معزولة عن سياقها، منتزعة من أسباب نزولها، مع الغفلة عن وجه الإعراب فيها، إلى أشياء أخرى تظهر إن شاء الله من الأمثلة.
ومن العجب أن بعض هذه الوجوه الخاطئة من التفسير قديمة، وقد استمرت إلى يومنا هذا، وهو ما أسميه "تفسير العوام"، وأريد بالعوام هنا: غير أهل العلم، الذين يتحرون الصواب، ولا يقولون إلا بعد المراجعة والمفاتشة والتقصي.