ومع ذلك التوقي والحذر، فقد رأى علماء السلف من التابعين، ومن بعدهم، أنه من الواجب عليهم أن ينهضوا لتفسير كلام الله، بعد أن أخذوا له أخذه، وأعدوا له عدته، من تأمل الكتاب الكريم كله، ورد بعضه إلى بعض، ثم النظر فيما انتهى إليهم من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه القولية والفعلية، وما هدي إليه كبار الصحابة من تفسير وتأويل.
وقد أعان هؤلاء السلف أيضاً ما قام به جامعو اللغة ورواة الشعر، مما وضع أمامهم زاداً وفيراً من الألفاظ والتراكيب والمعاني، فتمت لهم أدوات التفسير والتأويل والبيان.
وكان وراء هذا الذي قام به علماء السلف غاية دينية، هي حفظ ذلك الكتاب العزيز من أن تتناوله أيدي الجهلة وأصحاب الأهواء والملل والنحل، وبخاصة أن الأمة الإسلامية كانت قد انفتحت في ذلك الزمان على ثقافات ومعتقدات الأمم الأخرى، يؤنس بهذا ما ذكره العلامة الطوفي، في الموضع المذكور من كتابه، قال: "لعل علماء السلف رحمهم الله رأوا أن الكلام في القرآن متعين عليهم، وأنهم أولى به ممت أتى بعدهم، لقربهم من التنزيل ومعرفة التأويل، فيكون ورعهم وزهدهم وخشيتهم هي الحاملة لهم على الكلام فيه، خشية أن يدرس من علم شريعة الله ودينه ما لا يمكن تداركه، ورأوا أن الخطأ عنهم في ذلك موضوع (أي مرفوع معفو عنه) كالأحكام الفرعية الاجتهادية، وذلك كما حكي عن موسى بن عقبة، لما رأى ما دخل على مغازي النبي صلى الله عليه وسلم، من الزيادة والنقص، جمع ما صح عنده من المغازي ليحرسها بذلك من الكذب".
وهكذا ندفع علماء هذه الأمة يوماً بعد يوم في استثارة كنوز هذا الكتاب الحكيم، وكشفها والإبانة عنها، بل إن علوماً بأكملها قامت ابتداء لخدمة ذلك الكتاب العزيز، ثم صارت بعد ذلك علوماً مستقلة، لها مناهجها وأدواتها وغاياتها، مثل النحو وإعجاز القرآن الذي صار أساساً لعلوم البلاغة. ومن هنا أصبح علم التفسير جامعاً لعلوم العربية كلها، وقد سبق تعريف الزركشي لعلم التفسير، والعلوم