عثمان بإرسال تلك المصاحف، بل أرسل مع كل مصحف عالماً من علماء القراءة يعلم المسلمين وفق هذا المصحف، وعلى مقتضاه، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدينة، وبعث عبد الله بن السائب إلى مكة، والمغيرة بن شهاب إلى الشام، وعامر بن عبد قيس إلى البصرة، وأبا عبد الرحمن السُّلمي إلى الكوفة. فكان كل واحد من هؤلاء العلماء يُقرئ أهل مصره بما تعلمه من القراءات الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بطريق التلقي والتواتر التي يحتملها رسم المصحف. وقد أمر عثمان رضي الله عنه بحرق كل ما عدا مصحفه هذا.
خامساً: معلوم أن "مصحف عثمان" هذا كان خالياً من النقط والشكل، وكذلك المصاحف المستنسخة منه، وكذلك كل ما كتب من القرآن زمان النبيّ صلى الله عليه وسلم، كل ذلك كان مجرداً من النقط والشكل، وذلك ليتحمَّل الرسم ما صح نقله، وثبتت روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمرو الداني: "وإنما أخلى الصدر منهم - أي الأوائل من المسلمين - المصاحف من ذلك - أي من النقط ومن الشكل - من حيث أرادوا والدلالة على بقاء السعة في اللغات، والفُسحة في القراءات التي أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها والقراءة بما شاءت منها، فكان الأمر على ذلك إلى أن حدث في الناس ما أوجب نقطها وشكلها" المحكم في نقط المصاحف ص 3، وهذا الذي حدث في الناس فأوجب نقط المصحف وشكله هو دخول الأعاجم من غير العرب في دين الإِسلام، وقد تمَّ ذلك في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني، على يد أبي الأسود الدؤلي "69 هـ"، ونصر بن عاصم الليثي "89 هـ"، ويحيى بن يعمر - بفتح الميم- العَدواني - بفتح العين - "129 هـ".
ويقال: إنَّ عمل نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر كان بتوجيه وإشراف الحجاج بن يوسف الثقفي، ويقال إنه أمر بإعدام المصاحف الخالية من النقط والشكل. فانظر فضل هذا الرجل الجبار على العربية وعلى قرَّاء القرآن.
ومع هذه الوثبة العظيمة في تاريخ القرآن الكريم، فقد بقي ناس من أهل العلم