وهذه الكتب كانت متاحة لنا في صدر شبابنا: في دار الكتب المصرية بباب الخلق، وفي مكتباتها الفرعية داخل القاهرة، وفي عواصم الأقاليم، ثم كانت تغص بها مكتبات الكليات الجامعية، بل في كثير من مكتبات المدارس الثانوية، ثم كانت تلك الكتب قريبة إلى عقولنا وقلوبنا بذكر أساتذتنا لها، ونقلهم عنها، وحثهم لنا عليها وإغرائهم بها، ومطالبتهم إيانا باستظهارها، غذ كانوا يرون أنها أوعية العلم ولا أوعية غيرها، وكذلك كانت مألوفة لنا بإحالة الأدباء والكتاب عليها في المجلات والدوريات الثقافية.

والآن: جفت الينابيع، وصوح النبت، فدار الكتب أصبحت كبئر معطلة ومكتبات الكليات الجامعية تطايرت محتوياتها إلى بيوت بعض الأساتذة: غنيمة باردة، وعارية غير مستردة، أما تعامل الأساتذة والكتاب مع هذه الكتب فأنت تعرفه!

وأسأل طلبتي في السنة النهائية (الليسانس) عن هذه الكتب فلا أظفر إلا بصبابة قول، لا تكاد تتجاوز اسم الكتاب، مع تخليط كثير في بعض أسماء الكتب وأسماء أصحابها ... ولا تلوموهم ولوموا أنفسكم.

ثم أعود إلى مكتبتي وأطيل النظر إلى قسم الأدب منها، وأكرر سؤالًا أعرف ألا جواب له: من يقرأ هذه الكتب، كبارها وأوساطها وصغارها؟ بدءاً بالمفضليات والأصمعيات، وانتهاء بالكشكول والمخلاة للعاملي، وقروناً بين ذلك كثيراً: دواوين الشعر ومختارات الأدب والحماسات والأمالي والمجالس، وكتب المعاني وكتب الأمثال: تجارب أمم، وعقول أقوام استودعها بطون الكتب، وأدتها إلينا أجيال وفية من الرواة والحفظة والنساخ والمحققين، حفظوها وصانوها كما يصون كرام الأبناء ودائع الآباء.

وقل مثل هذا في سائر علومنا: تفسير القرآن وعلومه، ودواوين السنة، وكتب الفقه وأصوله، وعلم الكلام والتصوف والتاريخ والأنساب والبلدانيات (الجغرافيا) والمعارف العامة، واللغة والنحو والبلاغة. فمن يقرأ هذه الكتب الآن فضلًا عن اقتنائها؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015