يجيء الكاتب القادر المبين، فإذا بهذه الأشياء الحبيسة تنطلق من عقالها، وإذا بالأفكار والخواطر تأتيه من كل مكان، وتنثال عليه انثيالًا، وتزدحم أمامه ازدحاماً، وكأنها قوافي سويد بن كراع التي وصفها:

أبيت بأبواب القوافي كأنما ... أصادي بها سرباً من الوحش نزعا

فيقيد منها الشارد، ويستدني منها البعيد، فيكون فرح القارئ بما قرأ معادلًا لسروره بما استخرج.

الجاحظ والعربية:

وقراءة الجاحظ إذا أخذت بحقها قادت إلى المكتبة العربية كلها، بفنونها وعلومها المختلفة، إذ كان الجاحظ كثير الإلمام بالعلوم العربية، لا يكاد يشذ عنه منها شيء وبخاصة في «رسائله» التي لم تؤت ما تستحقه من الدرس؛ لأن الناس شغلوا عنها بكتبه الأخرى: البيان والحيوان والبخلاء والعثمانية. على أن أهم ما تستثيره عندي قراءة الجاحظ الآن هو: ما حظ شباب هذا الجيل من كتب الجاحظ ومن إليه؟

لقد قال ابن خلدون قولته الشهيرة: «وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن - علم الأدب - وأركانه أربعة دواوين: وهي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي، وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها».

ونعم، لقد أحسن كل الإحسان من عد هذه الكتب الأربعة أصول علم الأدب، فإن كتاب ابن قتيبة يدور حول اللغة، في تسمية الأشياء وخلق الإنسان والحيوان، وأصول الهجاء وضوابط الأبنية، وتقويم اللسان ولحن العامة. وكتاب المبرد كتاب لغة ونحو وأخبار - وبخاصة أخبار الخوارج - وكتاب الجاحظ دائر حول البيان والبلاغة والخطابة، مع الاسترسال إلى المعارف الأخرى، وكتاب القالي المعروف بالأمالي والنوادر، كتاب لغة وغريب وشعر، فمن حصّل هذه الكتب، ثم أطال الوقوف عندها والنظر فيها فاز بأوفر الحظ والنصيب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015