سبيل الوجازة والاختصار، وهي كلمات يعرفها أهل العلم من أساتذتنا وزملائنا، ولكني أردت بها شباب هذا الجيل الذي غُيَّب عن تاريخه وتراثه بأسباب كثيرة من المسخ والتشويه والتضليل، وأردت بها أيضاً التنبيه إلى خطورة إخضاع رموزنا التراثية وقضايانا الفكرية لتوجيه العامة وسلطانها الغالب.
ومما ينبغي التنبه له أيضاً أن هذه العاميات قد مدت سلطانها الآن إلى تفسير القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر وسائر كلام العرب، ولست أعني بالعاميات: الألفاظ والأبنية والتراكيب، ولكني أعني عاميات الفكر والتصور، وما أريد أن أشق عليك أيها القارئ الكريم بذكر الشواهد والمثل، فهو أمر متعالم مشهور، لكني أذكر لك ما أره الآن أمامي كتاب (الأدب العربي) المقرر على تلاميذ الصف الأول الثانوي. طبعة وزارة التربية والتعليم سنة 1992 م / 1993 م، وقد كتب على غلافه: «الكتاب الفائز في مسابقة الوزارة سنة 1990 م». وفي أول الكتاب قصيدتان لعنترة بن شداد العبسي، صدرتا بهذه العبارة «نماذج من الشعر الجاهلي»، ومطلع القصيدة الأولى:
سكتُّ فغرّ أعدائي السكوتُ ... وظنُّوني لأهلي قد نسيتُ
ومطلع الثانية:
يا طائر البان قد هَيَّجت أحزاني ... وزدتني طرباً يا طائر البان
وهذا شعر بارد خفيف سخيف، يبعد أن يكون من نمط الشعر الجاهلي، ويستحيل من كل الوجوه أن يكون من مذهب عنترة الشعري. وفي القصيدة الأولى نقرأ هذا البيت:
خلقت من الحديد أشدَّ قلباً ... وقد بَلِيَ الحديد وما بليتُ
وعجز البيت من العامية بمكان. وكنت في طفولتي بحي الدرب الأحمر أسمع بعض فتوات المغربلين يقولون: «الحديد بلي واحنا لم بلينا» (وهذا من المواضع القليلة التي يستعمل فيها العامة الفعل مبنيّاً للمجهول» على أن الحديد أكثر ما يوصف بالصدأ، لا بالبلى.