وليس من غايتي هنا الحديث عن شاعرية أبي نواس، فهذا مما يعرفه الناس، ويلتمس من مظانه. لكن الذي يعنيني هنا هو الكشف عن الوجه الآخر لهذا الشاعر العظيم، وأنَّ وراء هذه الشاعرية الجادة أو الماجنة عالماً كبيراً، هو من معالم هذه الأمة ومن رموزها العظيمة. وحسبك بشاعر يقف على بابه، ويخوض لججه، أئمة كبار، كابن السكيت، وابن جني، وأبي بكر الصولي، وحمزة الأصفهاني، ومهلهل بن يموت بن المزرع، وأبي هفان المهزمي!
قرأ أبو نواس القرآن الكريم على يعقوب بن إسحاق الحضرمي، أحد القراء العشرة، ولما حذق القراءة عليه رمى إليه يعقوب بخاتمه، وقال: اذهب فأنت أقرأ أهل البصرة. وكتب الحديث عن أئمته: عبد الواحد بن زياد، ويحيى القطان، وأزهر السمان. ثم أخذ اللغة والغريب عن أبي زيد الأنصاري شيخ سيبويه، ونظر في كتاب سيبويه، وأخذ عن خلف الأحمر معاني الشعر، وعن أبي عبيدة معمر بن المثنى أخبار العرب وأيام الناس. وحفظ وحصل كثيراً، حتى روي عنه أنه قال: ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب، فما ظنكم بالرجال؟ وروي عنه أيضاً أنه قال: أحفظ سبعمائة أرجوزة، وهي عزيزة في أيدي الناس، سوى المشهورة عندهم.
والجاحظ يصفه بالعالم الراوية، الحيوان 2/ 27. وحكى ابن المعتز في طبقات الشعراء ص 201، قال: «كان أبو نواس عالماً فقيهاً، عارفاً بالأحكام والفتيا، بصيراً بالاختلاف (أي اختلاف الفقهاء في الأحكام) صاحب حفظ ونظر ومعرفة بطرق الحديث، يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه. وقد تأدب بالبصرة، وهي يومئذ أكثر بلاد الله علماً وفقهاً وأدباً، وكان أحفظ لأشعار القدماء والمخضرمين وأوائل الإسلاميين والمحدثين».
وقال ابن منظور في مختار الأغاني 3/ 17: «كان أبو نواس متكلماً جدلاً، راوية فحلاً، رقيق الطبع، ثابت الفهم في الكلام اللطيف».
وبعد ... فهذه كلمات قلائل عن هارون الرشيد وأبي نواس سقتها على