فقلت له: أعد الأبيات، فقال لي: دخلت عليّ وشغلتني عما كنت عليه، خلوت بنفسي في هذا المسجد أتمنى أمانيّ دونها خرط القتاد، فأفسدتها عليّ، فحفظت الأبيات من قوله وانصرفت وتركته.
قال أبو حيان: وأنشدنا أبو سعيد السيرافي في المشيب:
تفكرت في شيب الفتى وشبابه ... فأيقنت أن الحقّ للشيب واجب
يصاحبني شرخ الشباب فينقضي ... وشيبي إلى حين الممات مصاحب
ثم قال: ما رأيت أحدا كان أحفظ لجوامع الزهد نظما ونثرا، وما ورد في الشيب والشباب، من شيخنا أبي سعيد، وذاك أنه كان دينا ورعا تقيا زاهدا عابدا خاشعا، له دأب بالنهار من القراءة والخشوع، وورد بالليل من القيام والخضوع، صام أربعين سنة الدهر كله. قال: وقال لي أبو إسحاق المدائني: ما قرأت عليه خبرا ولا شيئا قطّ فيه ذكر الموت والقبر والبعث والنشور والحساب والجنة والنار والوعد والوعيد والعقاب والمجازاة والثواب والانذار والاعذار وذم الدنيا وتقلّبها بأهلها وتغيرها على أبنائها إلا وبكى منها وجزع عندها، وربما تنغص عليه يومه وليلته، وامتنع من عادته في الأكل والشرب. وكان ينشدنا ويورد علينا من أمثاله ما كنا نستعين به ونستفيد منه ما نجعله حظّ يومنا. ورأيته يوما ينشد ويبكي:
حنى الدهر من بعد استقامته ظهري ... وأفضى إلى تنغيص عيشته عمري
ودبّ البلى في كلّ عضو ومفصل ... ومن ذا الذي يبقى سليما على الدهر
قال: ووصّى يوما بعض أصحابه وكان يقرأ عليه «شرح الفصيح» لابن درستويه: كن كما قال الخليل بن أحمد: اجعل ما في كتبك رأس مالك، وما في صدرك للنفقة. قال: وأنشدنا:
وذي حيلة للشيب ظلّ يحوطه ... يقرّضه حينا وحينا ينتّف
وما لطفت للشيب حيلة عالم ... من الناس إلا حيلة الشيب ألطف
قال أبو حيان: وشكا أبو الفتح القواس إليه طول عطلته، وكساد سوقه، ووقوف أمره، وذهاب ماله، ورقّة حاله، وكثرة ديونه وعياله، وتجلّف صبيانه، وسوء عشرة أهله معه، وقلة رضاهم به، ومطالبتهم له بما لا يقوم به، وأنه يقع ويقوم