قال وأنشدنا لمحمود الوراق في الشيب وعيناه تدمعان:
ولو أن دار الشيب قرّت بصاحب ... على ضيقها «1» لم يبغ دارا بداره
ولكنّ هذا الشيب للموت رائد ... يخبرنا عنه بقرب مزاره
قال أبو حيان: وكان أبو سعيد يفتي على مذهب الإمام أبي حنيفة وينصره، فجرى حديث تحليل النبيذ عنده، فقال له بعض الخراسانيين: أيها الشيخ دعنا من حديث أبي حنيفة وقول الشافعي، ما ترى أنت في شرب النبيذ والقدر الذي لا يسكر ويسكر؟
فقال: أما المذهب فمعروف لا عدول عنه «2» ، وأما الذي يقضيه «3» الرأي ويوجبه العقل ويلزم من حيث الاحتياط والأخذ بالأحسن والأولى فتركه والعدول عنه، فقال له: بيّن لنا عافاك الله، فقال: اعلم أنه لو كان المسكر حلالا في كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم لكان يجب على العاقل رفضه وتركه بحجّة العقل والاستحسان، فإن شاربه محمول على كلّ معصية، مدفوع إلى كلّ بلية، مذموم عند كلّ ذي عقل ومروءة، يحيله عن مراتب العقلاء والفضلاء والأدباء، ويجعله من جملة السفهاء، ومع ذلك فيضرّ بالدماغ والعقل والكبد والذهن، ويولّد القروح في الجوف، ويسلب شاربه ثوب الصلاح والمروءة والمهابة حتى يصير بمنزلة المخبّط المخريق والمثبّج «4» ، يقول بغير فهم، ويأمر بغير علم، ويضحك من غير عجب، ويبكي من غير سبب، ويخضع لعدوه، ويصول على وليه، ويعطي من لا يستحقّ العطية، ويمنع من يستوجب الصلة، ويبذّر في الموضع الذي يحتاج فيه أن يمسك، ويمسك في الموضع الذي يحتاج فيه أن يبذر، يصير حامده ذاما وأفعاله ملومة «5» ، عبده لا يوقره، وأهله لا تقربه، وولده يهرب منه، وأخوه يفزع عنه، يتمزغ في قيئه، ويتقلب في سلحه، ويبول في ثيابه، وربما قتل قريبه، وشتم نسيبه، وطلق امرأته، وكسر آلة البيت، ولفظ بالخنا، وقال كلّ غليظة وفحش، يدعو عليه جاره، ويزري به