من نذر نفسه لهذا اللون من المؤلّفات كان لا بد له من أن يكون تحت تصرفه مكتبة كاملة، ولعلّ اتصال ياقوت بالكتب، ونسخه المئات منها، واتجاره بها فتح عينيه على أنّه يستطيع أن يقوم بمشروعات كبيرة في آن واحد، وزاده ثقة بتحقيق ما قد خامر نيته هجرته (التي أرادها خاتمة لتنقلاته) إلى مرو الشاهجان، واطلاعه هناك على خزائن كتب لم يجد لها مثيلا في المدن الأخرى. إن مثل هذه المشروعات لا تتقيد بزمن محدد، وتتطلب سنوات وسنوات في جمع مادتها، وتتقبل الإضافة المستمرة، والعمل على تأليف مثل هذه الكتب في إطار زمني واحد أفيد وأكثر اختصارا للزمن لأن المؤلف قد يقع على مصدر يمدّه بتراجم أدباء وشعراء وتعريف بأسماء البلاد، غير أنّ اجتماعها معا في زمن التأليف يتطلب قدرة تنظيمية فائقة، وذاكرة قوية، ولهذا تعد المعاجم شاهدا على حقيقة ما كان يتميز به ياقوت.
فأمّا اعتماد معجم للأدباء، وآخر للشعراء، فقد كان الطريق فيه قد سلكه عشرات قبل ياقوت وعشرات معاصرون له، فقد كان العصر نفسه معرّضا للتنافس في هذا المجال، ولم تعد هناك مدينة مشهورة في العالم الإسلامي إلا ويختص بها كتاب أو كتب في تراجم رجالها وتراجم من دخلها، وعلى أساس هذه التواريخ الأصلية كتبت ذيول ثم كتبت ذيول على الذيول أو تكملات لها، فقد خلّف ابن السمعاني ذيلا على تاريخ الخطيب، وكان ابن الدبيثي شيخ ياقوت يصنع ذيلا على ما كتبه السمعاني، وكان صديقه ابن النجار يؤلف ذيلا آخر على تاريخ الخطيب، وكان صديقه ابن العديم يكتب تاريخ حلب وتراجم رجالها ومن دخلها، والقفطي يكتب تراجم النحاة، وتراجم المحمدين من الشعراء، وأخبار الحكماء، وكان صديق آخر لياقوت هو المستوفي يكتب تاريخ إربل أي يترجم لمن برز من أهلها أو لمن دخلها، وكان صديقه الآخر ابن الشعار يكتب قلائد الجمان في شعراء عصره، وكان شيخه المنذري يكتب التكملة لوفيات النقلة، كما كان ابن خلكان يحاول أن يكمل ما بدأ به من وفيات الأعيان. هؤلاء بعض المعاصرين، وليس ثمة مجال لذكر جيل سابق أو أجيال سابقة لهم، فالعصر يعجّ بمن يكتبون تاريخه وتراجم رجاله، فإذا فكر ياقوت في جمع تراجم للأدباء منذ بداية ظهور النحو حتى عصره أو تراجم للشعراء القدماء