أناس غيّبوا وهم شهود ... بما ابتدعوه من علم خطير
كأنهم حضور حين تجري ... محاسن ذكرهم عند الحضور
لئن ملئت قبورهم ظلاما ... فإن ضياءهم ملء الصدور] [1]
وبعد فهذه أخبار قوم أخذ عنهم علم القرآن المجيد، والحديث المفيد [وهم أنهجوا طريق العربية، وأناروا سرجه المضيّة] [1] وبصناعتهم تنال الإمارة، وببضاعتهم يستقيم أمر السلطان والوزارة، وبعلمهم يتمّ الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام. ألا ترى أنّ القارىء إذا قرأ إن الله بريء من المشركين ورسوله- بالرفع- فقد سلك طريقا من الصواب واضحا، وركب منهجا من الفضل لائحا، فإن كسر اللام من «رسوله» كان كفرا بحتا [2] وجهلا قحّا؟ وقد روي أن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: لعلم العربية هو الدين بعينه، فبلغ ذلك عبد الله بن المبارك فقال:
صدق لأني رأيت النصارى قد عبدوا المسيح لجهلهم بذلك، قال الله تعالى: أنا ولّدتك من مريم وأنت نبيي، فحسبوه يقول: أنا ولدتك وأنت بنيي. فبتخفيف اللام وتقديم الباء وتعويض الضمة بالفتحة كفروا.
وحسبك من شرف هذا العلم أنّ كلّ علم على الإطلاق مفتقر إلى معرفته، محتاج إلى استعماله في محاورته، وصاحبه فغير مفتقر إلى غيره، وغير محتاج إلى الاعتضاد والاعتماد على سواه، فإن العلم إنما هو باللسان، فإذا كان اللسان معوجّا متى يستقيم ما هو به؟ وإن أردت إقامة الدليل على شأن أهل هذا الشان، وإيضاح فضلهم بالدلائل والبرهان، كنت كمن تكلّف دليلا على ضياء النهار، وإشراق الشمس وإحراق النار، فإن ذلك لا يخفى على الصامت من الحيوان فكيف الناطق، وعلى كل كهّ فهّ [3] فكيف الحاذق.
فقد جمعت من أخبار هذه الطائفة بين حكم وأمثال وأخبار وأشعار ونثر وآثار، وهزل وجدّ، وخلاعة وزهد، ومبك ومضحك، وموعظة ونسك: