وَقد اسْتَطَاعَ الْقُرْآن الْكَرِيم بِفضل الله وَرَحمته ثمَّ بسر فَصَاحَته وبلاغته أَن يكوَّن من عرب الجزيرة أمة تحمل رِسَالَة الْإِسْلَام وتنشيء حضارة وتصنع تَارِيخا1 فتغيرت حياتهم فَأَصْبَحت من بعد ضعف قُوَّة، وَمن جهل إِلَى علم، وَمن بعد فرقة وتناحر إِلَى ألفة وتآزر، وَمن الذل والهوان إِلَى الْعِزَّة والكرامة، وَمن الضَّلَالَة إِلَى الرشاد، قَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} 2
ويتفرد الْقُرْآن الْكَرِيم بأسلوبه الرائع فِي بِنَاء العقيدة الإسلامية فِي النَّفس الإِنسانية، لَا يستخدم الْعقل وَحده وَلَا العاطفة وَحدهَا، بل يُربي الْعقل والعاطفة مَعًا. يعمد إِلَى التدرج فِي مُخَاطبَة الْعقل البشري من المحسوس إِلَى الْمُجَرّد، وَمن الْحَاضِر إِلَى الْغَائِب، تمّ ينْتَقل بعد ذَلِك إِلَى بَيَان حَقِيقَة الموجد للمخلوقات وَأَنه هُوَ الْمُسْتَحق لِلْعِبَادَةِ وَحده دون سواهُ يَقُول الْحق تبَارك وَتَعَالَى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} 3
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن الْقُرْآن الْكَرِيم شَامِل لجَمِيع متطلبات النَّفس الإِنسانية فِيمَا تحتاجه من الْأَوَامِر والنواهي، وَمَا يصلحها وَمَا يصلح لَهَا، وَمَا يسعدها وَمَا يشقيها، وَمَا يهديها وَمَا يُظِلّهَا. وَعَلِيهِ يَتَقَرَّر أَن الْقُرْآن الْكَرِيم هُوَ الْمنْهَج الْكَفِيل بتربية الْفَرد تربية شَامِلَة كَامِلَة، كَمَا أَنه يُربي الأسرة الفاضلة والمجتمع الْفَاضِل.