إن القرآن شفاء للناس بنص كلام الله جل في علاه إذ قال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، فإذا جاء رجل وقال: إن ابني يصرع دائماً، ولا يلتقم ثدي أمه، والقرآن شفاء كما قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، فقام هذا الرجل وكتب آية الكرسي؛ لأنها شديدة على الشيطان، ثم علقها ويجعلها في عنق ابنه، أو يد ابنه، فهل هذه التميمة تدخل في التمائم المحرمة، أم هي تميمة من التمائم الجائزة؛ لأن القرآن كله شفاء؟ هذه المسألة لا نحجر واسعاً فيها، فقد حصل الخلاف فيها بين السلف الصالح، فبعضهم يقول: يجوز، وبعضهم يقول: لا يجوز، وقال بالجواز جم غفير منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص وهو قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكثير من الصحابة، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حجر العسقلاني، فكل هؤلاء يقولون بجواز كتابة التميمة من القرآن وجعلها على عنق الولد للشفاء أو لدفع الضر أو العين، ويستدلون على ذلك بعدة أدلة منها: عموم قول الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، ويستدلون أيضاً بمفهوم المخالفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، ويقولون: إن كانت كل تميمة شركاً فهي محرمة، وإن لم تكن شركاً فهي مباحة، والقرآن ليس بشرك بل هو كلام الله جل في علاه.
ويستدلون أيضاً بقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن التمائم حرمت قبل نزول القرآن تعني: أنه بعدما نزل القرآن الذي هو شفاء للناس أبيحت التمائم.
واستدلوا أيضاً بما أُسند إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يكتب دعاء الفزع الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم له، والذي رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمه هذا الدعاء: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر غضبه وعباده)، فكان عبد الله يعلمه للكبير من أولاده، وإن كان الولد صغيراً لا يقدر أن يعلمه كتبه في ورقة، ويجعل تلك الورقة معلقة على رقبة ذلك الطفل.
قالوا: وهذه الأدلة الكثيرة وقعت على مرأى ومسمع من الصحابة، فيدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولم ينكره، ولو جيء بالمصحف الصغير وعلقه على السيارة صح على قولهم، ولو أتى بآية الكرسي وعلقها على الحائط دفعاً للعين فهذه أيضاً جائزة على قولهم، ولو وضع على باب البيت ورقة مكتوبة فيها: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق:1 - 2] جاز ذلك؛ لأنه يعتقد أنها سبب لدفع العين ودفع الحسد على قول هؤلاء.
القول الثاني: وقد تزعم هذا القول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وجمع غفير من الصحابة كـ ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، ورجحه ابن العربي وغيره من المحققين من السلف، فكل هؤلاء يقولون: إن هذه التمائم حرام، وعندهم أدلة كثيرة على ذلك، منها: عموم الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فقد أشرك) و (من) هنا نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، وفي سياق الإثبات تفيد الإطلاق، وهناك فرق بين العام والمطلق، فالعام: هو الذي يعم جميع أفراده، وأما المطلق فهو الذي يقصد بالحكم فرداً من أفراده لا معيناً، كأن أقول: أكرم طالباً، وعندي من الطلبة محمد وأحمد وسمير وعزيز وكريم ومجيد مثلاً، فلو قلنا: أكرم طالباً، فهو مطلق، لأننا لو أكرمنا أي واحد منهم فقد وقع الحكم.
وأما العام كأن يقال: أكرم الطلبة، فلو أكرمت محمداً وعزيزاً وسميراً ولم أكرم مجيداً لم أكن قد حققت الحكم، بل لا بد من إكرام الكل، فهذا هو الفرق بين العام والمطلق، فالنكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق ولا تفيد العموم.
فهذا الحديث استدل به هؤلاء على العموم؛ إذ أن النكرة في سياق الشرط عند علماء الأصول تفيد العموم، فـ (من) من الأسماء الشرطية، أي: فلو علق أحد أي تميمة سواء من القرآن أو من غير القرآن فقد وقع في الشرك، وهذا عام لا مخصص له، فلا يوجد دليل من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يخصص هذا، فلم يأت أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى مريض من المرضى فقال: اكتبوا له القرآن فإنه شفاء، وعلقوه على صدره.
ويستدلون أيضاً بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، والتمائم اسم جنس معرف بالألف واللام، فيفيد العموم، سواء التمائم من القرآن أو من غيره.
واستدلوا أيضاً بسد الذرائع، فإن من مقاصد الشريعة سد الذريعة التي تصل بالإنسان إلى المحرم، فالله جل وعلا حرم على الإنسان أن ينظر للمرأة؛ لأن النظر إلى المرأة وسيلة إلى الزنا، فسد الله هذه الذريعة وقال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30]، وقد سد النبي ذريعة الشرك، وحافظ على جناب التوحيد بقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال: (من يطع الله ورسوله فقد وشد، ومن يعصهما فقد غوى)، مع أن الكلام صحيح، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سدا لذريعة الشرك، وحتى لا يساوى النبي بالله جل في علاه، قال له: (بئس خطيب الأمة أنت، أجعلتني لله نداً)، ولما قالوا له: أنت سيدنا، قال: (إنما السيد الله)، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم حقاً هو السيد، لكن سداً للذريعة وحسماً للمادة منع ذلك.
وهؤلاء قالوا: إذا قلنا بجواز التميمة التي فيها شيء من القرآن فإننا نكون قد فتحنا الباب ليختلط القرآن بغيره، فسيأتي المشعوذون والدجالون وما أكثرهم، ويكتبون آيات من القرآن، ويدخلون في ذلك طلاسم لا تعرف، فيختلط الحق بالباطل، وكثير من الناس لا يعرف الحق من الباطل.
واستدلوا كذلك بأن قالوا: لو كان خيراً لسبقنا إليه السلف.
ثم ردوا على ما استدل به الأولون وقالوا: الحديث الذي أسند إلى عبد الله بن عمرو بن العاص حديث ضعيف، ولا حجة لكم فيه، إذ الأحكام مناطة بالصحيح.
وأما قول عائشة فهو تفسير منها، وهذا التفسير إذا خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة فلا يؤخذ به؛ لأن الحجة بالرواية لا بالاجتهاد والرأي، والقياس هنا ممنوع؛ لأنه قياس فاسد الاعتبار ومصادم لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (من تعلق تميمة فقد أشرك).
فهذا قولان، ولهما أدلة، والمسألة العلمية هذه لا نأتي فيها بقول واحد ونحجر غيره، فبالإنصاف نصل إلى الأقرب والصواب، ولكن الراجح في ذلك والله تعالى أعلم القول الثاني أن هذا حرام خلافاً لشيخ الإسلام ابن تيمية، وخلافاً لـ ابن القيم، وخلافاً للشيخ ابن عثيمين، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يعلق المرء التمائم ولو كانت قرآنا، لا على الإنسان، ولا على حائط الباب أو الجدران أو غيرها، وحتى المرأة لا يجوز أن ترتدي السلسلة أو الخاتم أو الأسورة المكتوب فيها آية من آيات القرآن، وكثير من النساء يفعلن ذلك، وهو محرم؛ لأنه من التمائم، والدليل على التحريم ما قلناه من عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التميمة، وأنه قال (من تعلق تميمة فقد أشرك)، وكثير من الناس تراه لو كان معلقاً آية الكرسي، ثم قطعت منه تلك السلسلة؛ فترى عليه الهم والغم؛ لأن المانع عنده من الهم والغم قد قطع، وكأن قلبه يميل إليه، فالصحيح الراجح سداً للذريعة وحسماً لمادة الشرك: أن نقول بحرمة ذلك؛ لأنه سيجر إلى وسائل الشرك، ونحن مأمورون بسد ذرائع الشرك، وينسحب هذا الحكم على السلاسل وإن كانت للزينة، وبعضهم يعلق آية الكرسي على الباب ويقول: أنا أعلقها لكي يراها كل من دخل، فيذكر الله، وهذا من تلبيس إبليس، فإن ذلك قد يجرء إلى امتهان القرآن، وإذا علقته على صدر الطفل فإنه لابد أن يدخل به الخلاء، ويعرضه للأقذار، فلا بد أن نترفع عن ذلك ونقول بالحرمة.