أما أول هذه الأفكار التي تشابه أفكار أهل الجاهلية فهي فكر الإباضية: وهم الذين يكفرون بالمعصية، ويرون وجوب الخروج على الأئمة، ومن هؤلاء أيضاً فرقة التكفير والهجرة: وهؤلاء هم أتباع مصطفى شكري في مصر، وقد كان من الإخوان المسلمين ثم انشق عنهم، ثم بعد ذلك أتى بهذه الأفكار الهدامة، فأصبح يكفر بالمعصية، ويرى وجوب الخروج على أئمة المسلمين، وقد حدث بسببه وبسبب أعوانه أصحاب التكفير والهجرة وأصحاب التوقف والتبين قتل للأبرياء، والذين ليس لهم في أفكارهم ناقة ولا جمل، ثم بعد ذلك زعموا أنهم يريدون الإصلاح في الأرض، فحدث أن تهدمت الدعوة على رءوس كل الدعاة؛ وهذه المصائب كلها تحصل لعدم تقدير المصلحة والمفسدة، فلا يمكن لهذه الأفكار الهدامة أن تصل إلى الله جل في علاه.
وانظروا إلى ما حصل بعد ذلك في الجزائر، وذلك بنفس السبب، فقد حدث أن الدعاة لم يصبروا على الظلم الذي وقع بهم حينئذ، فاجتمعوا وألبوا الناس على الحكام، وابتدأ من هنا الفكر الهدام، فابتدأت الثورة وابتدأ الحماس من على المنبر، ويجب أن نعلم بأن الدين ليس بالحماسات أو العاطفة، بل الدين قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك خرجت فئات لا تعلم عن دين الله شيئاً تنادي بكفر الحاكم، وأنه لا بد من عزله، وأنه لا يجوز لكافر أن يحكم المسلمين، في تنطع وتجرؤ عجيب، ونسي هؤلاء أنهم يقتحمون النار على بصيرة، ونسوا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما؛ فإن كان كما قال وإلا رجعت عليه)، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم واشتد زجره على أسامة عندما قال له: (أقتلته بعدما قالها)، أي: أنه قال: لا إله إلا الله وقتلته، ثم قال له: (وكيف تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة)، ثم بعد ذلك تحدث المفسدة العظيمة.
وانظروا إلى الواقع الآن في الجزائر، فآلام وآهات يموت منها المرء كمداً وحزناً؛ لأن الشباب هم حصون هذه الأمة، فنسأل الله جل وعلا أن يهدينا وإياهم إلى سواء السبيل، وهذه نصيحة لي ولإخواني أن نرجع إلى العلماء الراسخين، وإلى الدليل، حتى إذا مات أحد من الشباب فيكون قد مات على بصيرة دون أن يقتحم النار على جهل، فإن الله سائله عن حياته التي ضاعت بالجهل، وسائله عمن قتله بجهله، وقد خرج بعضهم في بلاد الحرمين مؤخراً، لأسباب: أولها: فقد العلم، ثانيها: التسرع دون وجود ضوابط تضبط عملهم، ثالثها: عدم رجوعهم إلى العلماء الراسخين، بل ذموا العلماء وتجرؤا عليهم، وهذه نتائج الفساد المستطير، فقد أصبح الإسلام مجرد إرهاب وقتل وخروج على الحكام، وكأنهم يقولون: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، فأصبحت المفسدة أعظم بأضعاف مضاعفة من المصلحة المرجوة، وأي مصلحة مرجوة في قتل الأبرياء المسلمين؟! وأي مصلحة مرجوة في قتل مستأمن؟ فإن كان قد أتى بما يحل أمانه فلا بد أن ترده إلى العلماء الراسخين، ثم هم يردونه بدورهم إلى ولاة الأمور بالمناصحة السرية، واتخاذ القرار الصحيح في شأنه؛ لأنك إذا قتلته من نفسك فقد أتيت بالشر العظيم، وهذا واقع مشاهد من أيام عثمان رضي الله عنه وأرضاه إلى يومنا هذا.
فعلى الإخوة أن يعلموا أن دين الله جل في علاه ليس بالحماسات أو العواطف، بل لا بد عليهم من السمع والطاعة قدر إمكانهم وقدر استطاعتهم، وهذا التقييد هو الذي قيده العلماء: أن السمع والطاعة تكون قدر الاستطاعة، وإن السمع والطاعة تكون في المعروف لا في المعصية، وأما إذا أُظهرت المعصية فلا سمع ولا طاعة ولا تأليب ولا تنقيص، بل لا بد من المناصحة لولاة الأمور، وفي هذه تكملة لهذه العبادة التي تتعبد بها الله جل في علاه.
وقد أختتمت هذا الحديث بهذه المسألة لأن الشيخ ابتدأها، فقال: أهل الجاهلية كانوا لا ينضوون تحت راية أحد، ولا يأتمرون بأمر الأمير، ثم قال: إن الإسلام عطل هذا الأصل، فلا بد من ولي أمر، ولا بد من السمع والطاعة قدر الاستطاعة، فلا يجوز أن تشق عصا الطاعة أو تنزع منها يداً، فإن أمرت بالمعصية فلا سمع ولا طاعة، ولا تأليب ولا تشويش ولا ثورة عليهم؛ لأنك ستفسد أكثر مما تصلح.
وأختم بأن هذه العبادة تكمل بالنصح لولاة الأمور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث خصال أو خلال: أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئاً، وأن يلزموا جماعة المؤمني، والنصح لولاة الأمور)، وفي الصحيح أيضاً عن تميم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة! قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث لا يغل عليهن قلب امرء مسلم: الإخلاص لله، ولزوم جماعة المسلمين، والنصح لولاة الأمور).
فأما النصح لولاة الأمور: فإما أن تكون قادراً على ذلك: فإن رأيت منكراً فاذهب بأدب جم ولين جانب ورفق لتنصح في الله جل في علاه، يقول الله تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:44]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه)، فإن لم تستطع أنت بذاتك فإن استطعت الاتصال فاتصل، فهذا أمر واجب عليك، ولن تبرأ ذمتك إلا بذلك، فإن لم تستطع فابحث عن رجل ثقة أمين تعلم أنه سيوصل هذه الرسالة إلى المسئول، فتكتب له في الرسالة من الكلام الطيب والمهذب ما يجعله يغير هذا المنكر الذي حصل وطرأ، وهذا هو دأب علمائنا في القديم والحديث، فإن لم تستطع إلى ذلك سبيلاً فإذا كرهت بقلبك فقد برئت وسلمت.
وكما ذكرنا مسبقاً فإن هذه من أصول أسلافنا: أحمد بن حنبل والفضيل بن عياض ويحيى بن معين وابن المديني.
وقد افتتن أحمد في مسألة القرآن من المأمون، فجلده وحبسه عاماً، فقام الناس يضجون بـ أحمد، وقد سئل يحيى بن معين عنه فقال: تسألوني عن أحمد؟! أحمد إمام أهل السنة والجماعة.
وذهبوا إليه بثورة فقالوا له: نخرج عليه؛ لأنه ظلمك، وهو في هذه اللحظة يملك أن يصبح أمير المجاهدين في وقته، فله أن يحفزهم لتكسير السجن والخروج على الخليفة الظالم، ولكن انظروا إلى دين الله، وانظروا كيف أن الرجل يعلم اليقين بأن التمكين سيكون لدين الله في النهاية، فقالوا له: نخرج عليه، قال: لا والله، إنه أميركم، وله عليكم السمع والطاعة، ثم قال: والذي نفسي بيده لو كانت لي دعوة مستجابة لخبأتها لولي الأمر؛ لأنه يعلم أن صلاح الأمة في صلاح ولي الأمر، وأن فسادها من فساده.
ولذلك يجب عليك أن تنصح ولاة الأمور، وأن تدعو لهم على المنابر، والدعاء لولاة الأمر سنة متبعة عن السلف، والأخلص والأصوب والأفضل أن تدعو لهم سحراً بإخلاص ويقين بالإجابة: أن الله يصلحهم ويجعلهم نصراً لدينه، فتكون بذلك فائزاً عند ربك، ولعلك أن تكون من الصالحين المخلصين فيتقبل الله منك دعوة مستجابة، فيصلح الله جل وعلا هذه الأمة بدعوتك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وجزاكم الله خيراً.