إن الجاهلية مشتقة من الجهل، والجهل هو ضد العلم، وكفى بالجاهلية والجهل ذماً أن صاحبهما لا يقبل أن تسمه بالجهل حتى وإن كان جاهلاً؛ لأنه مذمة، أما العلم فهو ممدحة، وكفى بالعلم فخراً أن تشرئب أعناق الجهال إليه ليوصفوا بالعلم.
والجهل ثلاثة أقسام: جهل بسيط، وجهل مركب، وجهالة.
القسم الأول: الجهل البسيط: وهو عدم العلم بالشيء، فلو أن رجلاً من أدغال إفريقيا نشأ ببادية بعيدة ثم أسلم فقلت له: أتعرف أن الله قد فرض خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: نعم، ولو قلت له: أتعرف أن هناك صلاة تسمى صلاة الظهر؟ لقال: نعم، فتسأله: كم ركعة في صلاة الظهر؟ فقال لك: لا أعلم، فهذا جهل بسيط؛ لأنه لا يعلم شيئاً فقال: لا أعلم، فهذا يمكن أن تعلمه وتقول له: الظهر أربع ركعات.
القسم الثاني: الجهل المركب، وهو التصور الخاطئ للأشياء مع اعتقاد أن تصوره صحيح، فعنده علم مخالف للعلم الصحيح.
فلو جئت إلى رجل أعرابي جلف فسألته: هل أنت عالم؟ يقول: أنا أعلم أهل الأرض، فتقول له: صلاة الظهر كم ركعة؟ فيقول لك: هذا السؤال الذي أتعبت نفسك لتسألني إياه؟! الظهر سبع ركعات.
وهذا يذكرنا بحمار الحكيم توما، وكان هذا الرجل دائماً يزعم أنه حكيم، ويفتي بالخطأ دائماً، فالحمار لم يحتمل هذه الفتوى المزعومة، فقالوا على لسانه: قال حمار الحكيم توما لو أنصف الناس كنت أركبْ لأنني جاهل بسيط وصاحبي جاهل مركَّبْ القسم الثالث: الجهالة، هي العلم بالشيء والتطبيق الخطأ له، وذلك كأن تعلم أن المعصية حرام، التطبيق الصحيح لهذا العلم أن تجتنب هذه المعصية، فإن ارتكبت المعصية فهذه جهالة، فلو كنت تعلم أن النظر إلى المرأة الأجنبية العارية حرام فنظرت، فهذا النظر يعتبر منك جهالة؛ لأنك تعلم أنه حرام وارتكبته، وأدل ما يكون على ذلك من كتاب الله قول الله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54] إلى أن قال: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]، يعني: أنه علم أنه سوء ثم فعله، فيسمى عاملاً للسوء بجهالة.
وأما معنى الجاهلية في الاصطلاح: فهي ما كان عليه الناس من محادة لدين الله جل في علاه قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، أو هي الحالة التي تكون عليها أمة من الأمم قبل الهدي الإلهي، والبشارة والرحمة النبوية لها.
وهذه الحالة كانت في الأمة التي جاءها النبي صلى الله عليه وسلم، فخالفت أمر النبي وشرعه صلى الله عليه وسلم من كل وجه.
والجهالة جهالتان: جهالة عامة، وجهالة خاصة، أو جهالة مطلقة وجهالة مقيدة، فالجهالة المطلقة هي: مخالفة الشرع من كل وجه، ومحادة دين الله جل في علاه من كل وجه، وهذه الجهالة المطلقة هي جهالة أهل الكفر الذين كانوا قبل النبي صلى الله عليه وسلم، أو أهل الفترة الذين كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الجهالة المقيدة: فهي مشابهة أهل الإسلام لأهل الشرك بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأفعال، مثال ذلك: النياحة على الميت، فهذه فيها مشابهة لأخلاقيات الجاهلية الجهلاء التي كانت قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وما زالت عند النساء في هذه الأوقات، في لطم الخدود، وشق الجيوب، والنياحة على الميت، وكذلك الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب.
وأدل ما يكون على الجهالة المقيدة: حديث أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه، وذلك عندما قال لـ بلال: (يا ابن السوداء! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه؟ إنك امرئ فيك جاهلية).
فوسمه بهذه الجاهلية؛ لأنها مثل جاهلية أهل الشرك قبل الإسلام، وهذه الجاهلية معصية وليست بشرك.