وقال الأصمعيّ: كنت عند الرَّشيد، فرُفع إليه في عافية، فأُحضر، فجعل الرشيدُ يخاطبه ويوقفه على ما رُفع إليه، وطال المجلس، ثم إنَّ الرَّشيد عطس، فشمَّته مَن كان بالحضرة ممن قرب منه سواه، فقال له: ما بالُك لم تشمِّتني؟ فقال: يَا أميرَ المُؤْمنين، إنَّك لم تحمد الله، وذكر حديثَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه عطس عنده رجلان فشمَّت أحدَهما ولم يشمِّت الآخرَ، فقال: يَا رسولَ الله، ما بالُك شمَّتَّ ذلك ولم تشمِّتني؟ فقال: "إنّه حمد الله فشمَّتناه، وأنت لم تحمدْه فلم أُشمِّتك" (?). فقال له الرشيد: اِرجع إلى عملك، فأنت لم تسامِح في عطسةٍ، تسامحُ في غيرها؟ وصرفه مُنصَرفًا جميلًا، وزَبَر القومَ الذي كانوا رفعوا عليه.
استعفاؤه من القضاء:
كان يتقلَّد القضاء للمهدي، وكان عالمًا زاهدًا، فصار إلى المهدي في وقت الظُّهر وهو خالٍ، فاستأذن عليه، فأذن له، فدخل ومعه قِمَطْره (?)، فاستعفاه من القضاءِ واستأذن في تسليم القِمَطر إلى مَن يأمره، فظنَّ المهديُّ أن بعض الأولياء قد غضَّ منه وأَضعف يدَه في الحكم، فسأله, فقال: ما جرى شيءٌ من ذلك، قال: فما سببُ استعفائك؟ فقال: تقدَّم إليَّ خصمان موسِران وجيهان منذ شهرين في قضيَّة مشكلة، وكلٌّ يدَّعي بيِّنةً وشهودًا، ويُدلي بحجَّة تحتاج إلى تأمُّل وتثبُّت، فرددتُ الخصوم رجاءَ أن يصطلحوا أو يعنَّ لي وجهُ فصلِ ما بينهما، فوقف أحدُهما من خبري على أنِّي أحبُّ الرُّطَب بالسكَّر، فعمد في وقتنا -وهو أوَّلُ أوقات الرُّطب- إلى أن جمع لي رُطبًا سكرًا لا يتهيَّأ في وقتنا جمعُ مثلِه، ورشا بوَّابي بجملة دراهمَ على أن يُدخلَ الطبق إليّ، فلمَّا دخل بالطبق ووضعه بين يدي، أنكرتُ وسألت بوَّابي، فصدقني فطردتُه، وأمرت بردِّ الطبق، فلمَّا كان اليومُ تقدَّم إلي مع خصمه، فما تساويا في قلبي ولا في عيني، هذا يَا أميرَ المُؤْمنين ولم أقبل، فكيف يكون حالي لو قبلتُ! وقد فسد النَّاس، ولا آمَن أن يقعَ عليَّ حيلةٌ في ديني فأهلك، فأَقِلْني أَقالك الله، فأَقاله.
ومات عافيةُ ببغدادَ، وكان ثِقَة.