وقال محمَّد بن عمر: لما دُعِيَ مالك بن أنس، وشُوور، وسُمِعَ منه، وقُبلَ قولُه، شَنِفَ النَّاس له، وحسدُوه، وبَغَوْهُ بكلِّ شيء، فلمَّا وَليَ جعفرُ بن سليمان على المدينة سَعَوْا به إليه، وكَثَّروا عليه عنده، وقالوا: إنَّه لا يرى أيمانَ بيعتكم هذه بشيء، وهو يأخذُ بحديثٍ رواه عن ثابت الأحنف في طلاق المكره أنَّه لا يجوز، فدعا جعفر بمالك، وقد غضب، واحتجَّ عليه بما رُقِيَ إليه عنة، ثم جرَّدَه ومدَّه وضربَه بالسياط، ومُدَّت يدُه حتَّى انخلَعَ كتفاه، وارتكِبَ منه أمرٌ عظيم، فوالله ما زال مالك بعد ذاك في رفعةٍ من الناس، وعلوٍّ من قدره، وإعظام النَّاس له، وكأنَّما كانت تلك السِّياطُ التي ضُرِبها حُلِيًّا حُلِّيَ به.
وكان مالك يأتي إلى المسجد، ويشهدُ الصلوات والجمعة والجنائزَ، ويعودُ المرضى، ويقضي الحقوقَ، ويجتمعُ إليه أصحابُه في المسجد، ثم تركَ الجلوس في المسجد، وكان يصلِّي ثم ينصرفُ إلى منزله، وترك شهود الجنائز، فكان يأتي أصحابَها فيعزِّيهم، ثم تركَ ذلك كلَّه، فلم يكن يشهدُ الصلوات في المسجد ولا الجمعة، ولا يأتي أحدًا يعزِّيه، ولا يقضي له حقًّا، واحتمل النَّاسُ ذلك كلَّه له، وكانوا أرغبَ ما كانوا فيه وأشدَّه له تعظيمًا حتى مات، وكان إذا تكلَّم في ذلك يقول: ليس كلُّ الناسِ يقدرُ أن يتكلَّم بعذرِه.
وكان يجلسُ في منزله على ضجاعٍ له، ونمارق مطروحة يمنةً ويسرةً في سائر البيت لمن يأتيه من قريش والأَنْصار والناس، وكان مجلسُه مجلسَ وَقارٍ وحِلْم، وكان مَهيبًا نبيلًا، ليس في مجلسه شيءٌ من المراءِ واللغَطِ، ولا رفع صوت.
وكان له كاتبٌ اسمُه حبيب يقرأ عليه الحديث، وكان قد نَسخَ كتبَه، فكان يقرأُ للجماعة، وليس أحدٌ ممن يحضرُه يدنو ولا ينظر في كتابه ولا يستفهم؛ هيبةً لمالك (?).
ولَمَّا خرج محمَّد بن عبد الله بن حسن بالمدينة لزمَ مالك منزله، فلم يخرج منه حتَّى قُتِل مُحَمَّد.
وقال زيد بن داود: رأيتُ في المنام كأنَّ القبرَ انفرجَ، وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعد،