ثم نزل الفرزدق عن البغلة، وأخذ ثيابهنَّ وقال: هكذا أفعل بكنّ؛ كما فعل امرؤ القيس. فنادته واحدةٌ منهنَّ وقالت: ويحك! إن امرأ القيس كان عاشقًا عُنيزة، أفعاشقٌ أنتَ بعضَنا؟ قال: أتشبّه به.
قال: وتعالى النهار، فخرجت عُنيزة من الغدير وحدَها خوفًا من أهلها، فرآها مُقبلةً ومُدبرة، وخرج الباقيات، فقُلْنَ: يا امرأ القيس، قد أجَعْتَنا وحبستَنا، فما أنت صانعٌ بنا؟ فقال: هذه ناقتي لكُنَّ. فنَحَرَها، وأجَّجَ نارًا وأطعمهنَّ، فقالت واحدة: أنا أحملُ طِنْفِسَتَه (?)، وقالت أخرى: وأنا أحملُ رَحْلَه، وقالت عُنيزة: وأنا أحملُه على غارب جملي (?)، فكان إذا مال ليُقبِّلها؛ مال الخِدْر، فيكاد أن يقع، فلذلك قال:
ألا ربّ يومٍ لك منهنَّ صالحٍ ... ولا سيَّما يومًا (?) بدارة جُلْجُلِ
ويومَ عَقَرْتُ للعَذَارى مَطِيَّتي ... فواعَجَبًا من رَحْلِها المُتَحمِّلِ
وأنشد الأبيات.
فقلن النساء (?) للفرزدق: ولابدَّ لك أن تفعل بنا ما فعل امرؤ القيس بصواحبات عُنيزة؟ قال: نعم. فهمست واحدة منهنَّ إلى صواحباتها بشيءٍ لم أفهمه، فقالت: ادْنُ منَّا لتنال بُغْيتَك. قال: فدنوتُ، وانغطَطْن في الغدير، ثم خرجت كلُّ واحدة منهنَّ وفي يدها طِين قد ملأت يدها منه، فتعادَين نحوي، وضَرَبْنَ بذلك الطين وجهي وعيني، فامتلأتْ عيناي، وتلوَّثَتْ ثيابي، ووقعْتُ على وجهي لا أدري أين أنا، فأخَذْنَ ثيابي وبغلتي ومَضَينَ، وبقيتُ مكاني مَغْشيًّا عليَّ إلى الليل، فقمتُ وغسلتُ وجهي، وأتيتُ منزلي على أقبح حال، وإذا بالبغلة يقودُها إنسان ويقول: أخَوَاتُك يُسلِّمْنَ عليك، ويُقلْنَ: طلبت منَّا ما لا يمكن دفعُه إليك، وقد بعثنا إليك زوجتَك البغلة، فافعلْ بها سائر ليلتك، وهذا كيسٌ فيه دراهم، فإذا أصبحتَ؛ فادفَعْه إلى الحمَّامي.
قال الفرزدق: واللهِ ما رأيتُ مثلهنَّ (?).