فقالت أمُّه: إني لأرجو من الله أن يكون عزائي فيك حسنًا إنْ تَقَدَّمْتَني أو تقدَّمتُك، ومن قُتل على باطل؛ فقد قُتلتَ على حقّ.
ثم قالت: اللهمَّ ارْحَمْ له طُول القيام في الليالي الطِّوال، وذاك النَّحيبَ والبكاء، والظمأ في الهواجر بالمدينة ومكة، وبِرَّه بأبيه وبي، اللهمَّ إني قد أسلمتُه لأَمرك فيه، ورضيتُ بما قضَيتَ، فأَثِبْني في عبد الله ثوابَ الصابرين الشاكرين (?).
وقال الواقدي: دخل على أمِّه وعليه الدِّرْعُ والمِغْفَر، فسلَّم ووقفَ، ثم تناولَ يديها وقبَّلَها وقال: جئتُ مودِّعًا، إني لأرى هذا آخرَ أيَّامي من الدنيا، فإنْ قُتلتُ فإنما أنا لحم لا يضرُّني ما صُنع به. فقالت: صدقتَ، أتمم على بصيرتك (?)، ولا تمكِّن ابنَ أبي عقيل منك (?)، ادْنُ منِّي أُوَدِّعْك. فدنا منها فقبَّلها وعانَقَها، فلما مسَّت الدِّرْعَ قالت: ما هذا صُنعُ مَنْ يُريد ما تُريد. قال: ما لبستُه إلا لأشُدَّ منك. قالت: فإنه لا يشُدُّ مني. فنزعها [ثم أدرجَ كُمَّه، وشَدَّ أسفلَ قميصِه وجُبَّة خَزٍّ تحت القميص، وأدخل أسفلَها في المِنْطَقَة] (?). وخرجَ إليهم.
وقال عروة (?): لما كانت الغداة التي قُتل فيها؛ دخَلَ على أمِّه أسماء وهي يومئذٍ بنتُ مئةِ سنة لم يسقط لها سنٌّ، فقالت: يا عبد الله، ما فعلتَ في حربك؟ فقال: إنَّ في الموت لراحةً. فقالت: ما أشتهي أن أموتَ حتَّى آتيَ على أحد طرفيك، فإما أن تملك فتقرَّ عيني، وإمَّا أن تُقتلَ فأحتسبَك. فودَّعَها وخرج وهو يقول:
ولستُ بمبتاعِ الحياةِ بِسُبَّةٍ ... ولا مُرْتَقٍ من خشيةِ الموتِ سُلَّما