قال: كان من الأمراء الفضلاء، والسادة القادة العلماء، قد متعه الله بالعمر وطول البقاء، وهو من المعدودين من شجعان الإسلام وفرسان الشام ولم بنو منقذ ملاك شيزر، ولما تفرد بالمعقل من تولاه لم يرد أن يكون معه فيه سواه فخرجوا منه سنة أربع وعشرين وسكنوا دمشق وغيرها من البلاد وكلهم من الأجاود المجاد وما فيهم إلا ذو فضل وكمال ونبل، ومامنهم إلا من له نظم مطبوع وشعر مصنوع وهذا مؤيد الدولة أعرقهم في الحسب، أعرفهم بالأدباء وكانت جرت له نوبة في أيام الدمشقيين وسافر على مصر وأقام هناك سنين في دولة المصريين وعاد إلى الشام لم يمكنه نور الدين من المقام وصار إلى حصن كيفا وتوطن وأبتنى هناك الدار والعقار ولما سمع بالملك الصلاحي نبا إلى دمشق وذلك في سنة سبعين. قال: وكنت اسمع بفضله وأنا بأصفهان وأنشدني له مجد العرب العامري بها سنة خمس وأربعين هذين البيتين وهما من مبتكرات معانيه في سن قلعه:
وصاحب لا أمل الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد
لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظري افترقنا فرقة الأبد
قال: فلما لقيته في دمشق سنة سبعين أنشد فيهما مؤيد الدولة لنفسه مع كثير من شعره المبتكر من جنسه.
وشاهدت ولده عضد الدين أبو الفوارس مرهفا وهو جليس صلاح الدين وأنيسه وبابن حمدون النديم ليقيسه. وقد كتب ديوان شعر أبيه لصلاح الدين وهو لشغفه به مفضله على ساير الدواوين ولم يزل هذا الأمير (185 ب) العضد مرهف صاحبا له بمصر والشام إلى آخر عمره. وتوطن بمصر فلما جاء أبوه أنزله أرحب منزل وأورده أعذب منهل، وملكه من أعمال المعرة ضيعة زعم أنها قديما تجري في أملاكه وأعطاه بدمشق دارا ووظف له غيثا من فواضله مدرارا فإذا كان بدمشق جالسه وآنسه وذاكره في الأدب ودارسه. وكان ذا رأي وتجربه وخلال مهذبه يستشيره في نوابيه ويستنير برأيه في غياهب وإذا غاب عنه في غزواته كاتبه وأعلمه بواقعاته ووقعاته ويستخرج رأيه في كشف مهماته وحل مشكلاته وبلغ عمره سبعا وتسعين سنه فإن مولده سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ومات سنة خمس وثمانين.
ومن أبيات أوردها عماد الدين لنفسه في هذا الموضوع قوله
نفسي فدا شادن ... على الدل نشا
وأتى زيف قهره ... بحملهما مرتعشا
وخده من أثر الثم ... كأنه قد خدشا
وكاد يمحوا لثمه ... عذارة المنتشا
كأنما وجنتيه ورد ... بطل رشتا
رأيته فكدت من عجبي=به أن أدهشا
هممت أحيانا به ... لولا التقى أن أبطشا
قال: ولما أستعفي القاضي ضياء الدين لم يبقى في منصب القضاء إلا فقيه ينعت بالأوحد كان ينوب عن كمال الدين فأمره السلطان بأن يجري على الرسم ويتصرف في الحكم، وكان السلطان لإحياء القضاء في البيت الزكوي مؤثرا ولذكر مناقبه مكثرا وقد سبق منه الوعد للشيخ شرف الدين أبن أبي عصرون ففوض إليه القضاء والحكم والإمضاء على أن يكون محيي الدين أبو المعالي محمد بن زكي الدين والأوحد داود قاضيان يحكمان، وهما عن منابته يوردان ويصدران، وتوليهما بتوقيع من السلطان. فاستمر الأمر ولم يزل الشيخ شرف الدين متوليا للقضاء سنتي اثنتين وثلاث وسبعين في ولاية أخي السلطان المعظم فخر الدين. فلما عدنا إلى الشام إلى ابنه محيي الدين أبي حامد مجمد كأنه نايب أبيه واستمر القضاء إلى القضاء اسمه من سنة سبع وثمانين.
وفوض ديوان الوقوف بجامع دمشق وغيره من المساجد إلى القاضي الأجل مجد الدين بن الزكي فتولاه إلى أن انتقل إلى موقف من عمل الأعمال وتولاه بعده أخوه محيي الدين على الاستقلال إلى أخر عهد السلطان وبعده. وبنى على قاعدة الشريعة فيها حلة وعقدة ثم تولى القضاء بدمشق بعد صرف من قبله واحيي بما اعتمده بيته وفضله.
معين الدين في أخر صفر