قال: كان القاضي كمال الدين بدمشق في الأيام النورية الحاكم المطلق وكان صلاح الدين حينئذ يتولى في دمشق أسباب الشحنكية، وكمال الدين يعكس مقاصده بالأحكام الشرعية، وربما كسر أغراضه وأبدى عن قبوله إعراضه وأهدى إلى صحته أمراضه إلى أن نقله الله من نيابة غالشحنكيه إلى الاستقلال بالملك فصار كمال الدين من قضاة ممالكه المنتظمة الملك وكان في فليه منه ما فيه وما فرط منه فات تلافيه. فلما ماك دمشق أجراه على جملته وأحترم نوابه وأكرم أصحابه وفتح لشرع بابه وأذهب بحقوقه حقودة وأعرض عن عقوقه عقوده.
وكان أبن أخيه ضياء الدين القاسم بن تاج الدين الشهرزوري قد هاجر إلى صلاح الدين بمصر في ريعان ملكه، فأذنت هجرته في درك المراد بإدارة فلكه، وأنعم عليه هناك بجزيرة الذهب، ومن دار الملك بمصر بدار الذهب، ووفر حظه من الذهب وملكه دارا بالقاهرة جميلة جليلة، ورتب له وظايف، وخصه بلطيف. ووصل مع السلطان إلى الشام وأمره جار على النظام ولما اشتد بكمال الدين المرض، وكاد يفارق جوهره العرض أراد أن يبقى في ذويه فوصى مع حضور ولده بالقضاء لضياء الدين بن أخيه علما منه بأن السلطان يمضي حكمه لأجل سؤاله فيه وتوفي في سادس المحرم من هذه السنة وعمره ثمانون سنة لأن ولده كان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة وفارق ولم يخلف مثله، ومن شاهده شاهد العقل المكنون والفضل المدون، وكان بارا بالأبرار مختارا للأخيار. وإذا كان له صاحب حفظه ونبه له ناظر حظه وأيقظه، وقد قواه نور الدين رحمه الله وقلده الحكم في أيامه سدد مرامي مرامه، وهو الذي سن دار العدل لتنفيذ أحكامه بحضرة السلطان حتى لا يبقى عليه مغمز ولا ملزم لذوى الشأن فيما دبره من الشأن.
وهو الذي تولى بناء أسوار دمشق ومدارسها والمارستان، واستقرت قاعدته في دولة السلطان. وتوفي ونحن لحلب محاصرون. وجلس الضياء ابن أخيه مكانه فأثبت وأمضى وأغضب وأرضى وأشهد وسجل وجرح وعدل.
وكان الفقيه شريف الدين (185 أ) أبو سعد عبد الله بن أبي عصرون قد هاجر من حلب إلى السلطان وقد أنزله بدمشق، وهو شيخ المذهب الشافعي وأقوم العلماء بالفتيان وأعرفهم بما يقتضيه (10) الشريعة من مصالح الدين والدنيا.
والسلطان يؤثر أن يفوض إليه منصب القضاء ولا يرى عنه عزل الضياء، وأفضى بسر مراده إلى الأجل الفاضل، وكان الفقيه ضياء الدين عيسى يتعصب لشيخه ويجد في رفع الحكم الضيائي بفسخه، واستشعر القاضي ضياء الدين من عزله وتزلزلت قدمه في شغله ولو قوى نفسه ونفسه وثبت على الإناء المحض أسمه لما خرج القضاء على حكمه ولا واجه السلطان بصرفه عن منصب عمه. وأشاروا عليه بالاستعفاء، وإنه كاره لمنصب القضاء فكتب يستعفي فقيل لأوجه لاستعفائك فلح القول فاستفهم عن معنى طلبه وإبداء سببه فقال: ما أوثر إلا فراغ الشر والخلاص من تبعات هذا الأمر فأصيب ٍسؤله وأجيب سؤاله وهنئ بأنه مجدد قبوله وإقباله وأبقى غليه الوكالة الشرعية عنه في بيع الأملاك واستجد عليه الإقبال السلطاني بعطلته وعزا عنده بعزلته وزاد في أعلاء منزلته.
قال: كان رسولا كافيا وبما يمضي فيه من مهم وافيا، وهو أول خطيب بالديار المصرية في عصرنا للدولة العباسية، وفيه ترفع وتكبر، يعجبه الناموس ولا بوحشه إلا الجاه المأنوس وإذا مضى إلى الديوان العزيز قصده الشعراء فأكثر خلعهم وجوازيهم وبعث على مدحه سريرهم وربما عاد وعليه ديون تراه في هيأته وهيبته كأنه وزير، وكلامه إذا خاطبته نذر يسير وهو الذي ضوع للسلطان وعرف عرف ظهير الدين منصور العطار وشد به ظهر الاستظهار، وحصل للسلطان بصدق صداقته الانتفاع والارتفاع، وتزايدت له في القوة والحظوة الأشياء والأشياع. فوصلنا إلى دمشق وقد قضى نحبه وأتى ربه، وكانت وفاته ليلة الجمعة الثاني عشر من صفر فحمل السلطان غمه، وقرب ولده وجبل بتربية يتمه. ثم تعين ضياء الدين الشهروزرى بعده للرسالة إلى الديوان العزيز واستتبت له على أخر العهد السلطاني هذه وتمهدت بتردده في الجانبين العمارة، وذاك بعض المضي إلى مصر والعد إلى الشام فإنه بعد ذلك خاطبت في هذا المرام.
وعوده إلى الشام عند علمه بوصول السلطان