قال: كانت هذه الخاتون المنعوتة بعصمة الدين في عصمة نور الدين فلما توفى رحمه الله أقامت في منزلها في دمشق بالقلعة مستقلة بأمرها ونهيها. ساكنة في إحدى حجرها أمنة في خفارة خفرها. صادقة في إخراج الصدقات صالحة في الاستكثار من الأعمال الصالحات، فرأى السلطان أن يحلى عطل الملك بخطبتها، ويصل جناح النجاح بوصلتها فاحضر الشيخ شرف الدين والقضاة وأخوها لأبيها سعد الدين مسعود بن انر حاضر وعقد بإذنها وتمت عقدة النكاح ودخل عليها وبات عندها ثم خرج بعد يومين لدمشق مودعا وعلى عزم المسير إلى مصر مزمعا.
رابع شهر ربيع الأول قال: ولما استتمت بالشام للسلطان أمور ممالكه، وامن على مناهج أمره ومسالكه وبلغ حساب النصر إلى فداكه ازمع إلى مصر الإياب وسحب إليها وقد أمحلت بعده السحاب، وعاود بحر نيله بحر نيلها وأعاد من عساكره الأسد إلى غيلها، وبرز مضاربه من أول الشهر وتقدمه الأمراء والملوك إلى المنازل، وخرج بكرة يوم الجمعة رابع الشهر بمرج الصقر، ثم رحل منه قبيل العصر إلى قريب الصنمين قال: وكنت أقمت حتى أديت فرض الجمعة فخرجت بعد الصلاة ووصلت إلى (1186) المخيم السلطاني وقد مضى من الليل هزيع وقبلى إلى الأهل ولمفارقتهم جزوع ولشدة أشواقي مازلت منزلا إلا ونظمت أبياتا فمن ذلك ما قلت يوم المسير:
بعت بمصر دمشق عن غرر ... منى فيا غبن صفقة البائع
وقلت بالزرقاء:
أعدتك يا زرقاء حمراء أنني ... بكيتك حتى شيباؤكم بالدم
فياليت شعري هل أعود إليهم ... وهل ليت شعري نافع للمتيم
قال ونظمت في طريق مصر قصيدة مشتملة على ذكر المنازل بالترتيب واتفق السلطان في بعض السنين سير الملك المظفر تقي الدين إلى مصر، وكان لا يستدعي منى شادية لإنشادها في ناديه، ويطرب لسماعها، ويعجب بإيقاعها وأولها:
هجرتكم لا عن ملال ولا غدر ... ولكن لمقدور اتيح من الدهر
واعلم أني مخطىء في فراقكم ... فعذرى في ذنبي وذنبي في عذرى
أسير إلى مصر وقلبي أسيركم ... ومن عجب أسرى وقلبي في اسر
تذكرت أحبابي بجلق بعدما ... والمشتاق يانس بالذكر
ومن فارق الأحباب مستبدلا بهم ... سواهم فقد باع المرابح بالخسر
قال: وكان الدخول إلى القاهرة يوم السبت السادس والعشرين من شهر ربيع الأول، وتلقى السلطان أخوه الملك العادل سيف الدين، وتلقانا خير مصر وجنت النا ثمراتها، وجلبت علينا زهراتها، وحلقت أنظارها وعلقت أقراطها، وزينت أطرافها وأوساطها، ودخل السلطان داره، وراجع الفلك مداره ووفق الله في جميع الامرو إيراده وإصداره. قال: ولم يبق لي من الشغل الا الكتب التي إلى الشام ولم يكن ذلك على الدوام فان في كل دوام ديوان كتابا وفي كل عمل نوابا فتوفرنا على الاجتماع في المغازي لاستماع الأغاني والشعر في الجزيرة والجيزة والأماكن العزيزة والاستمتاع بالجواهر والأعراض، والحضور في المدارس للاستدلال والاعتراض والتدريس للطلبة ورواية الأحاديث النبوية والمباحثة تارة في المعنى الأدبية وتارة في المسائل الفقهية، والحضور عند السلطان في كل ليلة للمشاورة الملكية والمحاضرة الإنسية، والمذاكرة النسكية.
وكان مشغوفاً بمجالسة خواصه من العقلاء وموانسة ذوى اختصاصه من الفضلاء فإذا أراد الانصراف بعد هزيع الليل قام إلى صلاة العشاء وإذا فرغ من الصلاة جماعة تفرق الجمع ورفع الشمع فإن كانت له حاجة إلى إنشاء كتاب أو البوح بسر صواب أجلسني وأملى علي مقاصده وقمت وسهرت تلك الليلة لتحرير الكتب ثم أبكر إليه وأعرضها عليه فإن رأى الزيادة فيها أو تبديل شيء من معانيها وصل بي إلى مقاطعها ووفقني على مواضعها فما أبرح حتى أسوي قوامها وأروي أوامها وإذا إستصابها وقد أتممت نصابها توجها بتوقيه ويقول توجهها ولا تعوقها وتسددها إلى الأغراض وتفوقها. قال: