العبادة وهذه دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 1، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ} 2.
وهذا الأصل هو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله. قال -تعالى-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3.
فإذا تبين أن هذا هو أصل الأصول، علمنا يقينا أن الله -سبحانه- لا يترك هذا الأمر ملتبسا، بل لا بد أن يكون بيّنا واضحا، لا لبس فيه ولا اشتباه، لأنه أصل الدين، ومعرفته فرض على كل مسلم مكلف، ولا يجوز فيه التقليد.
وحقيقة ذلك أن الشرك هو عبادة غير الله -تعالى-؛ والعبادة هي الطاعة بفعل ما أمر الله به ورسوله من واجب ومندوب؛ فمن أخلص ذلك لله فهو الموحد، ومن جعل شيئا من العبادة لغير الله فهو مشرك. قال -تعالى-: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} 4 أي: في العبادة، وقال -تعالى-: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} 5 الآية.
فإذا علم الإنسان حقيقة الشرك عرف يقينا أن الشرك وقع في الجزيرة كثيرًا: عند مشاهد وقبور يمنًا وحجازًا، من دعاء الأموات والغائبين، والاستغاثة بهم وسؤال الحاجات، وتفريج الكربات، والتقرب إليهم بالنذور والذبائح، وكذلك الذبح للجن والاستغاثة بهم؛ وهذا أمر معلوم بالتواتر عند من شاهد ذلك.
فإذا تحقق الإنسان ذلك علم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب"6 ليس فيه معارضة لهذا الأصل العظيم، الذي هو أصل الأصول، وليس فيه دلالة على استحالة وجود الشرك في أرض العرب.
فمن استدل بهذا الحديث على استحالة وجود الشرك في أرض العرب يقال له: بيّن لنا الشرك الذي حرمه الله، وأخبر أنه لا يغفره، فإن فسره بالشرك في توحيد