د. نعمان عبد الرزاق السامرائي
المتأمل في أحوال الأمة الإسلامية يجدها تعاني معاناة شديدة كما يجد
التفسيرات متباينة لذلك. بعض المفكرين يركز على قصور الأفراد والمجتمعات،
بينما يركز آخرون على (تآمر) الأعداء.
والذي لا يجادل فيه أحد أن التاريخ يتحرك ولكن إلى أين؟ هناك من يعتقد
بأن الحركة مندفعة للأمام، وقد قال بهذا بعض مفكري اليونان، ثم جاء (هيغل)
ليقول بأن كل فترة في الحضارة تكون أفضل من سابقتها، ومعنى ذلك أن الحضارة
في تقدم مستمر، وقد تلقفت الماركسية الفكرة فطبقتها في الصراع الطبقي، ونادت
بمثل ما نادى به هيغل، والذي نعلمه ونعرفه عن الحضارة أنها مجموعة أشياء
مادية مثل المباني والطرق وأخرى معنوية كالآداب والفنون والأنظمة والأفكار
والعقائد، وهذا الخليط المجتمع يمكن أن يتقدم بعضه ويتوقف آخر ويتأخر قسم
ثالث، فالحضارة ليست كائناً (عضوياً) إما أن يتقدم أو يتأخر فإن كان هذا يصدق
على الجسم الواحد فلا يصدق على الحضارة.
على أن هناك من يرى بأن حركة التاريخ تتم حسب دورات وأشهر ومن نادى
بذلك ابن خلدون وفيكو واشبنجلر وتوينبي - على اختلاف بينهم في طبيعة
الدورة - بل هناك من يقول بالنكوص والتقهقر.
المهم أن التاريخ يتحرك وفيه تتلاقى قوى وإرادات عدة، كما يساهم في تلك
الحركة نشطون وكسالى، يتدافعون ويتصارعون، يقول تعالى:
[ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ ولَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] [البقرة: 251]
ويقول:
[وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً] [الحج: 40]
ففي هذا التدافع والصراع تجديد وتنشيط، يشبه إلى حد جريان الماء الذي ما
أن يقف حتى يفسد.. فالتدافع بين البشر واقع مشهود، وحقيقته محسوسة. ونعود
للسؤال: هل ما نعانيه سببه تقصير أم تامر؟ ؟ لقد ألفا الكثير من المفكرين
والمفسرين للتاريخ يعتمدون التفسير (التآمري) فهناك اليهود والصليبية -
والشيوعية حتى الأمس -، وهؤلاء يحشرون الكثير من الحجج، فكل قضية يكون
فيها المسلمون طرفاً تجد التحيز وذوبان الموضوعية، فإذا ابتعدت هذه القضية عن
هذه الدائرة وجدنا الموضوعية والتزام الحياد.
وفي كل يوم نسمع هذا المسلم قتل هنا أو عذب هناك أو قام الجيش الفلاني
بحصده، والعالم يلتزم الصمت فإن كان المعتدي عليه يهودياً فإن الدنيا كلها تبكي
وتصرخ وتحتج.
ويتسائل البعض: ترى لو أن روسيا مثلاً قتلت كل يوم يهودياً أو أكثر كما
تعمل إسرائيل بالشعب الفلسطيني فماذا سيحدث؟
لا شك أن حرباً عالمية ثالثة ستقوم، وسيقتل الملايين وتهدم مدن وتباد جيوش.
الغرب يبكي ويلطم الخدود على بضعة (مختطفين) في لبنان، ولكن لا أحد
يبكي على الفلسطيني الذي يموت تحت التعذيب الإسرائيلي، ولم نسمع أحداً بكى أو
تباكى على الشباب الفلسطيني الذي دفن حياً على يد الصهاينة، تغير إسرائيل على
لبنان وتستعمل كافة الأسلحة ولا من يحتج، تضرب في تونس وتقتل ولا من يحتج، تفاوض إسرائيل الهند للتعاون في ضرب المنشآت الباكستانية النووية ولا من
يحتج. أليس هذا تآمراً مكشوفاً؟ يقول المؤرخ البريطاني توينبي: إن الغرب
اضطهد اليهود وأساء إليهم، وكان المفروض أن يعوضهم، لكن الذي حصل أن
الثمن دفعه أهل فلسطين فنزل بهم على أيدي الصهاينة بمساندة من الغرب أكثر مما
نزل باليهود. ومع ذلك قام الغرب والشرق مسارعاً للاعتراف بإسرائيل ودعمها
بالمال والرجال والعتاد لتعتدي كل يوم على جيرانها. دول كبرى احتجت بشدة لدى
الصين لأنها تنوي بيع صواريخ لسوريا والباكستان وهذه الدول نفسها تسلم في نفس
الوقت طائرات حربية لإسرائيل وتقدم لها ألوف الملايين حتى تعتدي يومياً وتطرد
أهل البلاد لتُحل مكانهم مهاجرين من الحبشة أو روسيا.
هل هناك دولة في العالم تطرد المواطن لتحل مكانه مهاجراً؟ ولعل مما يدخل
في سلسلة التآمر ما يصرح به أمثال (كيسينجر) علناً بأن من الواجب (تفتيت
المقدرة الإسلامية قبل أن يقدر لها الاكتمال) .
وقد قدر الدكتور حامد ربيع أن الرب سيعمل لإجهاض الصحوة الإسلامية عن
طريق (التلويث والتطويع والإذابة) . أما حملة التلويث فقائمة على قدم وساق،
تساهم فيها الصحافة العربية بعلم أو بدونه، نيابة عن الآخرين، وأما التطويع فتلك
مهمة الحكومات المحلية، فهي تشد يوماً وترخي آخر، حتى قال وزير داخلية في
قطر عربي كبير: إن أحكام الطوارئ تطبق على (الإسلاميين فقط) وحقوق
الإنسان تشمل كل البشر سوى المسلم فهو حلال الدم. أما الإذابة فقد تكفل بها
أشخاص من بينهم مدراء جامعات في جيوبهم (شيكات) توزع هنا وهناك والهدف
ضرب الصحوة الإسلامية وإذابتها، ومن يريد الاستزادة فدونه كتاب (موقف
إسرائيل من الحركة الإسلامية) لزياد علي.
أما التقصير فهو أظهر من أن يخفى. فهذه اليابان والمانيا خرجتا من الحرب
العالمية مهزومتين، وقد دمرت مدنهما وخلعت حتى قضبان سكة الحديد، ونهبت
المصانع وخلال سنوات سبقت حتى الدول التي انتصرت عليها وقد لحقت بها أخيراً
كوريا الجنوبية.
أما نحن فقد صرنا - بحمد الله - من مستهلكي الحضارة، كما تحولت بلادنا
إلى معارض بضائع الآخرين ومنتجاتهم وأفكارهم وأمراضهم البدنية والحضارية.
إن التقصير من الصعب إنكاره، وهذه جامعاتنا ومعاهدنا الثقافية ما زالت
(عالة) على الآخرين، ومع كثرة ما ينفق عليها فهي لم (تد) سوى جيش من
الموظفين الذين ينتظرون الترقيات والعلاوات، ولا تسل عن الإيفادات وهذه طامة
كبرى.
أما الموظفون فكما قال الشاعر (يعدد أياماً ويقبض راتباً) أما الإنتاج فيخل
الإنسان أن يذكره. الكل يريد ويطالب بالحقوق و (الحوافز) ولا أحد يذكر
الواجبات.
إن ما يحدث لنا هو مزيج كريه من تقصير وتآمر ولكن جرت العادة أن يذكر
أحد العاملين ويغفل الآخر هذه مدرسة في تفسير التاريخ تكتفي بعامل واحد ولا
تبحث عن سواه. وإذا كنا نعجز عن إقناع الأعداء في وقف تآمرهم فهل نعجز عن
تلافي التقصير؟
يقول الشاعر:
ولم أر في عيوب الناس عيباً ... كنقص القادرين على التمام