ضوابط في
تلقي النصوص الشرعية وفهمها
عبد العزيز بن محمد آل عبد اللطيف
لا شك أن لنصوص الوحيين (الكتاب والسنة) المنزلة العظيمة اللائقة بهما،
كما أن لفهم تلك النصوص الأسلوب الملائم لحصول المقصود منها، وسأورد لك
أخي القارئ بعضاً من الضوابط التي يتعين تذكيرها إزاء النصوص الشرعية عند
تلقيها وفهمها.
1- التسليم والتعظيم:
لا بد من التسليم التام والخضوع الكامل للنصوص الشرعية، كما أنه يتعين
التحاكم إليها وتقديمها على غيرها، كما يجب تعظيم نصوص الوحيين وإجلالها
وتوقيرها.
إن التسليم يعني خضوع القلب وانقياده لربه المتضمن لأعمال الجوارح، كما
أن التسليم (هو الخلاص من شبهة تعارض الخبر، أو شهوة تعارض الأمر، أو إرادة تعارض الإخلاص، أو اعتراض يعارض القدر والشرع، وصاحب هذا التوجه هو صاحب القلب السليم الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، فإن التسليم ضد المنازعة) . [1]
إن صفة التسليم للنصوص الشرعية من أهم صفات أهل الإيمان، فلا أحد
أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله تعالى، كما أنه ممن نال التمسك بالعروة الوثقى.
[ومَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وجْهَهُ لِلَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ] [النساء 125] ، وقال
تعالى:
[ومَن يُسْلِمْ وجْهَهُ إلَى اللَّهِ وهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى]
[لقمان 22]
وكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - أثناء حديثه عن السلف الصالح - (وكان
من أعظم ما أنعم الله به عليهم اعتصامهم بالكتاب والسنة، فكان من الأصول المتفق
عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقولة، ولا قياسه، ولا وجده. فإنهم ثبت عنهم
بالبراهين القطعيات والآيات البينات أن الرسول جاء بالهدى ودين الحق، وأن
القرآن يهدي للتي هي أقوم) [2] .
ويوضح -رحمه الله- أهمية هذا الأمر فيقول: (جماع الفرقان بين الحق
والباطل، والهدى والضلال والرشاد والغي، وطريق السعادة والنجاة، وطريق
الشقاوة والهلاك؛ أن يجعل ما بعث الله به رسله وأنزل به كتبه هو الحق الذي
يجب اتباعه، وبه يحصل الفرقان والهدى والعلم والإيمان، فيصدق بأنه حق
وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرض عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن
خالفه فهو باطل) [3] .
واعلم - أخي القارئ - أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله على
التسليم، وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع، ولهذا
لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت نبيها، وآمنت بما جاء به أنها سألته عن
تفاصيل الحكمة فما أمرها به، أو نهاها عنه، أو بلّغها عن ربها، بل انقادت،
وسلمت، وأذعنت. وما عرفت من الحكمة عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في
انقيادها وإيمانها واستسلامها على معرفته، وقد كانت هذه الأمة التي هي أكمل الأمم
عقولاً ومعارفاً وعلوماً لا تسأل نبيها لمَ أمر الله بذلك؟ ولمَ نهى عن ذلك؟ ولَم فعل
ذلك؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والاستسلام) . [4]
ولقد كان نبينا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه -رضي
الله عنهم- على التسليم لله تعالى وآياته وإجلال النصوص الشرعية وتعظيمها، ولقد
خرج -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه وهم يقولون: ألم يقل الله كذا وكذا،
يرد بعضهم على بعض، فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان من الغضب، ثم قال:
(ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض؟ بهذا هلك من كان قبلكم) . رواه أحمد
والترمذي.
وقد ضرب الصحابة -رضي الله عنهم- أروع الأمثلة في التسليم والإجلال
للنصوص الشرعية، فهذه امرأة تقدم على أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-
وتسألها، فتقول: (ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة: أحرورية أنت؟ فقالت المرأة: لست حرورية، ولكني أسأل. قالت: كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) . رواه مسلم.
ويحدث عمران بن حصين -رضي الله عنه- فيقول: قال رسول الله -صلى
الله عليه وسلم-: (الحياء كله خير. فيقول أحدهم: إنا لنجد في بعض الكتب أن
منه سكينة ووقاراً لله، ومنه ضعف. قال فغضب عمران حتى احمرت عيناه،
وقال: ألا أراني أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتعارض فيه. قال
فأعاد عمران الحديث، وأعاد الرجل مقالته، فغضب عمران، حتى قال
الحاضرون له: إنه منا يا أبا نجيد، إنه لا بأس به) . أي ليس ممن يتهم بنفاق أو
زندقة. رواه مسلم.
وقد التزم سلف هذه الأمة هذا المنهج، واعتنوا أيما عناية بتحقيقه، فها هو
الأوزاعي -رحمه الله- يقول: (من الله تعالى التنزيل، وعلى رسوله التبليغ،
وعلينا التسليم) [5]
وقال رجل للزهري: يا أبا بكر حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
(ليس منا من لطم الخدود وليس منا من لم يوقر كبيرنا) وما أشبه هذا الحديث؟
فأطرق الزهري ساعة ثم رفع رأسه فقال: من الله -عز وجل- العلم، وعلى
الرسول البلاغ، وعلينا التسليم) . [6]
ولما ذكر ابن المبارك حديث (لا يزني الزاني وهو مؤمن..) فقال فيه قائل: ... ما هذا؟ على معنى الإنكار. فغضب ابن مبارك وقال: يمنعنا هؤلاء الأنان
(كثير الكلام والشكوى) أن نحدث بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كلما
جهلنا معنى حديث تركناه! لا بل نرويه كما سمعنا، ونلزم الجهل أنفسنا. [7]
وكان أبو معاوية الضرير يحدث هارون الرشيد بحديث أبي هريرة: (احتج
آدم وموسى) فقال أحد الحاضرين: كيف هذا وبين آدم وموسى ما بينهما؟ قال:
فوثب هارون، وقال: يحدثك عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتعارض
بكيف؟ ! فما زال يقول حتى سكت عنه.
يقول شيخ الإسلام أبو إسماعيل الصابوني -رحمه الله- معلقاً على هذه القصة: (هكذا ينبغي للمرء أن يعظم أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويقابلها
بالقبول والتسليم والتصديق، وينكر أشد الإنكار على من يسلك فيها غير هذا
الطريق الذي سلكه هارون الرشيد - رحمه الله - مع من اعترض على الخبر
الصحيح الذي سمعه بـ (كيف) على طريق الإنكار له والابتعاد عنه، ولم يتلقه
بالقبول كما يجب أن يتلقى جميع ما يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم) . [8] ...
إن الناظر إلى واقع المسلمين الآن، يرى ما يدمي القلب، ويورث الحزن،
وذلك بسبب ما قد يقع فيه الكثير من المسلمين تجاه النصوص الشرعية، من جفاء
للنص، وهجران للسنة، بل ومعارضة النص الشرعي المعصوم بمعقول أو ذوق
أو قياس أو سياسة ... ألا فليتق الله أولئك القوم، فإنه والله يخشى على هؤلاء أن
يكون لهم نصيب من هذا الوعيد الشديد في الآية الكريمة:
[فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]
[النور 63]
يقول الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله-: (عجبت لقوم عرفوا الإسناد
وصحته ويذهبون إلى رأي سفيان - أي الثوري - والله تعالى يقول:
[فَلْيَحْذَرِ الَذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ] أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
2- الإيمان بجميع ما جاء عن الله تعالى وما صح عن رسوله
صلى الله عليه وسلم:
من سمات أهل السنة الإيمان بجميع ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يؤمنون
ببعض ويكفرون ببعض كحال أهل الكتاب، ومن شابههم من أهل الأهواء، فأهل
الحق يؤمنون بالله وبما جاء عن الله على مراد الله كما يؤمنون بالرسول -صلى الله
عليه وسلم- على مراد الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
يقول تعالى:
[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً] [البقرة 208]
أي فإن الله تعالى يأمر عباده والمؤمنين به أن يأخذوا بجميع شرائع الإسلام
جملة وتفصيلاً، وقال سبحانه:
[والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا] [آل عمران: 7]
إن إيمان أهل السنة بجميع النصوص الثابتة في مسألة ما قد أورثهم الخيرية
الوسطية بين الفرق، كما كانت هذه الوسطية سبباً في هداية الله لهم فيما اختلف فيه
من الحق بإذنه، فإيمانهم - مثلاً - بنصوص الإثبات مع التنزيه في باب صفات
الله تعالى جعلهم وسطاً عدلاً بين المعطلة والمشبهة، كما أن إيمانهم بنصوص الوعد
والوعيد جعلهم وسطاً بين الوعيدية والمرجئة، وإيمانهم بالنصوص التي تضمنت
إثبات قدرة الله وخلقه ومشيئته مع النصوص التي تثبت للعبد فعلاً ومشيئة..
أورثهم المسلك الوسط الخيَّر بين القدرية النفاة والجبرية، وكذا إيمانهم بجميع
النصوص الصحيحة في فضائل الصحابة جعلهم وسطاً بين الروافض والخوارج.
وقد حرص سلف الأمة على تطبيق هذا الأصل، فكانوا أهل الوسطية
والاعتدال، ومثال ذلك أن الزهري - رحمه الله - حدّث بحديث الرجل المسرف
على نفسه، والذي أوصى بنيه بأن يحرقوه بالنار - جهلاً منه بقدرة الله - فبعثه
الله وسأله عن سبب صنيعه فقال هذا الرجل: خشيتك يا رب، فغفر له بذلك. ثم
حدّث الزهري بحديث المرأة التي دخلت النار في هرة، لا هي أطعمتها ولا أرسلتها
تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت هزلاً. رواه مسلم.
ثم قال الزهري: لئلا يتكل رجل ولا ييأس رجل.
قال النووي: (معناه لما ذكر الحديث الأول خاف أن سامعه يتكل على ما فيه
من سعة الرحمة وعظم الرجاء، فضم إليه حديث الهرة الذي فيه من التخويف ضد
ذلك ليجتمع الخوف والرجاء، وهذا معنى قوله (لئلا يتكل ولا ييأس) وهكذا معظم
آيات القرآن العزيز يجتمع فيها الخوف والرجاء لئلا يقنط أحد ولا يتكل.) [9]
وجاء رجل إلى الحسن البصري -رحمه الله- يسأله عن فضل الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر - وكان ذلك في أيام فتن - فذكر الحسن حديث أبي
سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يمنعن
أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه، أو شهده، فإنه لا يقرب من أجل، ولا
يباعد من رزق أن يقال بحق) . [10]
ثم أتبعه الحسن بحديث آخر فقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
(ليس لمؤمن أن يذل نفسه، قيل: يا رسول الله، وما إذلاله لنفسه؟ قال: يتعرض
من البلاء ما لا يطيق) . [11]
واعلم - يا أخي - أن الإيمان بجميع النصوص يقتضي تحقيق البلاغ المبين
لها، فدين الله تعالى لجميع المكلفين، يقول الشاطبي: (الشريعة بحسب المكلفين
كلية عامة، بمعنى أنه لا يختص بالخطاب بحكم من أحكامها الطلبية بعض دون
بعض، ولا يحاشى من الدخول تحت أحكامها مكلف البتة. كما في النصوص
المتضافرة كقوله تعالى:
[وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًاً]
وقوله:
[قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً]
وقوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت إلى الأحمر والأسود ... ) [12] ...
ولكن لا يعني هذا الإخبار بكل نص ولكل مكلف بإطلاق ... بل لا بد من
التنبيه إلى أمر مهم يبينه الضابط التالي:
3- مراعاة أحوال المخاطبين:
فمن المعلوم أن لكل مقام مقالاً، وربما صح مقصد المكلف، وحسنت نيته،
لكن قصر فهمه عن إدراك المقصود من النص، فساء إدراكه والتبس عليه الأمر،
ولقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- ممن جمعوا بين حسن القصد مع حسن الفهم، وقد يحرم البعض أحد الأمرين أو كلاهما.
يقول شيخ الإسلام: (إن المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد،
وقد تجب في حال دون حال، وعلى قوم دون قوم، وقد تكون مستحبة غير واجبة، وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء..
وقد تكون معرفتها مضرة لبعض الناس فلا يجوز تعريفه بها، كما قال ابن
عباس لما سأله أحدهم عن قوله تعالى: [اللَّهُ الَذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ... ] الآية. فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت، وكفرك تكذيبك بها) . [13] ...
ويوضح الشاطبي هذا الأمر فيقول:
(ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من
علم الشريعة ومما يفيد علماً بالأحكام، بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر،
وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره
بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص) . [14]
ثم يقول: (وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول [*] فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية) . [15]
وقد طبق الصحابة -رضي الله عنهم- هذا الضابط، فكانوا في دعوتهم
وتبليغهم مراعين لأفهام الناس وأحوالهم، فها هو عبادة بن الصامت -رضي الله
عنه - وهو يعالج مرض الموت - يقول: ما من حديث سمعته من رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- لكم فيه من الخير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً، وسوف
أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
(من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرَّم الله عليه النار) رواه مسلم.
يقول القاضي عياض في شرح هذا الحديث: (فيه دليل على أنه كتم ما خشي
الضرر فيه والفتنة مما لا يحتمله عقل كل واحد، وذلك فيما ليس تحته عمل ولا فيه
حد من حدود الشريعة، ومثل هذا عن الصحابة -رضي الله عنهم- كثير في ترك
الحديث بما ليس تحته عمل، ولا تدعو إليه ضرورة، أو لا تحمله عقول العامة،
أو خشيت مضرته على قائله أو سامعه لا سيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والإمارة
وتعيين قوم وصفوا بأوصاف غير مستحسنة وذم آخرين ولعنهم، والله
أعلم) . [16]
وجاء في حديث معاذ قوله -صلى الله عليه وسلم- (ما من عبد يشهد أن لا
إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرم عليه النار. فقال معاذ: يا رسول الله
أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا) فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً.
قال ابن الصلاح: (منعه من التبشير العام خوفاً من أن يسمع ذلك من لا خبرة له ولا علم فيغتر ويتكل، وأخبر به -صلى الله عليه وسلم- على الخصوص من أمن عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة، فإنه أخبر به معاذاً، فسلك معاذ هذا المسلك فأخبر به من الخاصة من رآه أهلاً لذلك) . [17]
وقال ابن رجب في شرحه لأوائل صحيح البخاري: (قال العلماء يؤخذ من
منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس
لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهاداً في العمل
وخشية الله -عز وجل-، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالاً على
ظاهر هذا الخبر) . [18]
ولما أخبر أبو هريرة عمر - رضي الله عنهما - بحديث: (من شهد أن لا
إله إلا الله مستيقناً به قلبه دخل الجنة، فقام عمر وضرب بيده بين ثديي أبى هريرة
حتى أسقطه، وقال ارجع يا أبا هريرة، فرجع أبو هريرة إلى رسول الله، وأخبره
بما فعل عمر، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ما حملك على ما فعلت؟
قال عمر: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون. قال
الرسول -صلى الله عليه وسلم-: خلهم) . رواه مسلم.
قال النووي: (وفيه جواز إمساك بعض العلوم التي لا حاجة إليها للمصلحة
أو خوف المفسدة) . [19]
وقد عقد الإمام البخاري باباً فقال: (باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، وأورد قول علي -رضي الله عنه-: حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟
وللحافظ ابن حجر كلام نفيس في هذا المقام حيث يقول: (وفيه دليل على أن
المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة، ومثله قول ابن مسعود (ما أنت محدثاً قوماً
حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) رواه مسلم.
وعن الحسن البصري أنه أنكر تحديث أنس بن مالك للحجاج بن يوسف بقصة
العُرَنييَّن، لأنه اتخذها وسيلة إلى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله
الواهي، وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل
غير مراد، فالإمساك عنه عند من يخش عليه الأخذ بظاهره مطلوب [**] ) [20]
وساق مسلم بسنده إلى منصور بن عبد الرحمن الأشل البصري عن الشعبي
عن جرير أنه سمعه يقول: أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم. قال
منصور: قد والله روي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكني أكره أن يروى
عني ههنا بالبصرة. [21]
والسبب في ذلك كما ذكر النووي - أن البصرة كانت مملوءة من المعتزلة
والخوارج الذين يقولون بتخليد العصاه في النار، ويسلبون عنهم جميع الإيمان،
فخشي منصور أن يتأول هؤلاء المبتدعة هذا الحديث على حسب أهوائهم.
نسأل الله تعالى لجميع المسلمين الفقه في الدين وبالله التوفيق.