البيان الأدبي
حول التجديد
في الأدب ومفهوم الحداثة
د. عبد الله الخلف
التطور والتغيير في الأدب سمة لازمة له لا تنفك عنه. فالأدب من ناحية
مرتبط بالحياة، والحياة لا بد أن تتغير بشكل أو بآخر. ومن ناحية أخرى هناك
تطلع دائم من: قبل كثير من متلقي الأدب ومبدعيه إلى التغيير والتجديد، وإلى
اعتبار المجدد ذا شخصية إبداعية متميزة، وليس نسخة مكررة عمن سبقه. ومنذ
العصر الجاهلي أحس الشاعر بوطأة التقليد وثقله، فهذا عنترة يبدأ معلقته بالشكوى
بأن من سبقه من الشعراء لم يتركوا له مجالاً واسعاً في بكاء الأطلال: (هل غادر
الشعراء من مُتَرَدَّمِ؟) .
لذلك حاول العديد من الشعراء ولا سيما في العصر العباسي أن يجددوا في
فنهم، فظهر ما سمي آنذاك بمذهب المحدثين، وتطور هذا الأمر حتى وصل إلى
غايته، ثم بدأ بالانحدار وتحول إلى صناعة لفظية ركيكة. ومع ذلك فقد كانت
محاولة التجديد همّاً دائماً يحمله الشعراء حتى في عصور الضعف، فكانوا يتسابقون
إلى اختراع أنواع جديدة من الصناعة اللفظية على الرغم من ركاكة ما كانوا يأتون
وفي الأندلس ظهر التجديد في أوزان الشعر وقوافيه حيث ظهرت الموشحات التي
سرعان ما انتقلت إلى الشرق.
أما في أوائل العصر الحديث فقد كانت بداية التجديد بالدعوة إلى العودة إلى
أساليب الشعراء في عصور الازدهار، وأخذ هذا التيار بالنمو حتى وصل إلى
ذروته على يدي أحمد شوقي الذي قال فيه بعض النقاد إنه وصل بالشعر المحافظ
إلى ذروته، ووضع الشعراء أمام طريق مسدود، فلم يكن أمامهم من سبيل إلا أن
يقنعوا بمكانة دون مكانته، أو أن ينهجوا منهجاً مختلفاً، وكما قال أحدهم فيه وفي
أمثاله: (لقد أوصلوا الطريقة القديمة إلى نقطة لا يمكن تجاوزها إلا بالتخلي عنها) . وهذا ما حدث فعلاً حيث ظهرت مذاهب أدبية جديدة، وجرت عجلة التجديد
بسرعة كبيرة تجاوزت كل ما حدث في العصور السابقة.
وإذا وضعنا ما حدث في هذا العصر في سياقه التاريخي، فسوف ندرك أنه لا
غرابة فيه، فالتجديد سمة لازمة للأدب كما ذكرنا، أما ما نراه من سرعة هذا
التغيير، وتعدد المذاهب فإنه انعكاس لما نعيشه من تغير مستمر ومتسارع ومتشعب
في أساليب الحياة المادية، ومن تطور العلوم والمخترعات ووسائل الاتصال
والإعلان والنشر، وانفتاح أمم العالم على بعضها، ولما يشهده هذا العصر من
اضطراب فكري وعقدي، فمن المحال والحالة هذه ألا يستجيب الأدب لهذا التغيير، أو أن تكون حركة التجديد بطيئة متأنية.
وقد أطلق على موجة من أواخر موجات التجديد، والتي شهد الأدب من
خلالها نقلة واسعة اسم الحداثة، وهذا المصطلح وإن كان مترجماً من مصطلح
غربي فإنه قريب من التسمية التي أطلقها النقاد العباسيون على أصحاب المذهب
الجديد إذ سموهم المحدثين. غير أن هناك فئة من العلمانيين، وأصحاب الاتجاهات
المنحرفة برعوا في ركوب موجات التغيير واستغلالها. وكما تلقفوا لفظ التقدمية
وتسموا به واحتكروه قفزوا على لفظ الحداثة واستغلوه وألبسوه لباسهم الفكري،
وحاولوا أن يجتازوا به ساحة الأدب إلى ساحة الفكر والعقيدة، على الرغم من أن
هذا المصطلح منذ ظهوره في الغرب لم يكن يعبر عن اتجاه فكري محدد، ولم يكن
دعاة الحداثة متفقين على الثورة على المعتقدات والأفكار السائدة. فهذا واحد من
أكبر رواد هذا الاتجاه وهو الشاعر ت. س. إليوت يقول: (أنا كاثوليكي في
العقيدة، ملكي في السياسة، كلاسيكي في الأدب) . فالمصطلح في أصله دعوة إلى
التجديد في الأدب، ولا يتضمن بالضرورة الثورة على المعتقدات السائدة، ولهذا
فإن الحداثيين في الغرب ينتمون إلى اتجاهات فكرية مختلفة.
وحتى أصحاب الاتجاه الحداثي من العرب لم يتفقوا على تعريف محدد
للحداثة، ولا على موقف فكري معين، لذلك يرى الكثير منهم أنه ليست هناك
حداثة واحدة بل حداثات، كما أن بعضهم يعترف بالعجز عن إيجاد مفهوم نظري للحداثة، ويرون أنه لا سبيل إلى ذلك. ويدعو البعض إلى محاولة استنباط مفهوم هذا المصطلح ودلالته من خلال استقراء النصوص التي يرى النقاد أنها تحمل من سمات التجديد ما يميزها عن الاتجاهات التقليدية. [1]
ولكن أولئك الذين حاولوا أن يستغلوا هذا المصطلح ويحتكروه يصرون على
أن يحملوه ما يريدون من معان فكرية، بل إنهم حاولوا ان يوجدوا رباطاً وثيقاً بين
التجديد في الأدب والثورة على المعتقدات، مؤكدن على أنه لا يمكن للأديب أن
يطمع في أن يكون مجدداً إلا إذا تخلص من دينه وعاداته وتقاليده، رابطين بمكر
بين ما هو مسلم بوقوعه وهو التجديد في الأدب، وبين ما لا يمكن لمسلم أن يرض
به وهو التغيير في العقيدة. وكأنهم يريدون بذلك أن يحتكروا لأنفسهم ولمذاهبهم كل
شعار جذاب كالتقدمية والحداثة والاستنارة والوعي، وأن ينعتوا مخالفيهم بكل نعت
رديء كالتخلف والجمود والرجعية. وبهذا يتبين أن أصحاب الأفكار المنحرفة من
الذين تلقفوا مصطلح الحداثة لم يقتصروا على احتكار الاسم بل حاولوا أن يحتكروا
المسمى. وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير حتى أصبح الكثيرون من المؤمنين
ينفرون من التجديد في الأدب نفوراً إيمانياً عقدياً، لا نفوراً فنياً ذوقياً.
وكان مما ساعد على ذلك سيطرة هؤلاء المنحرفين على الساحة الأدبية
وتمكتنهم متن أن يصهروا في بوتقتهم الكثير من الأدباء، حتى أصبح الكثير من
الأدب الذي يحمل السمات الفنية للحداثة يتضمن أموراً منكرة تصل إلى حد الكفر
الصريح بالله -عز وجل-.
إن الربط بين التجديد في الأدب والانحراف في الفكر، وإيهام الناشئة أن لا
يمكن لهم تحقيق التحديث إلا بنبذ العقيدة، واعتبار الموروث الأدبي والموروث
الديني سواء في وجوب تجاوزهما والتخلي عنهما أمر مرفوض جملة وتفصيلاً.
لذلك يجب أن يحرر لفظ الحداثة مما ربطه به المارقون من أفكار، وأن يبقى ذا
دلالة أدبية خالصة.
وإذا كانت ظاهرة الاستهتار بالدين قد فشت في الأشكال الأدبية الجديدة فإن
هذا لا يعود إلى ارتباط حتمي بين الأمرين. إذ أن لذلك سبباً آخر هو انتشار الفكر
المنحرف في هذا العصر بشكل لم يسبق له مثيل بين المسلمين، وكان من الطبيعي
أن تظهر هذه الأفكار في الأدب أيا كان شكله واتجاهه، ولو أن الأشكال الأدبية
الحديثة لم تظهر وبقي الأدب على شكله القديم لحمل من تلك الأفكار مثلما حمل
الأدب الحداثي. آية ذلك أننا نجد الانحرافات العقدية في إنتاج كثير من الأدباء
الذين عاشوا قبل ظهور الحداثة، والذين يعدون في ميزان النقاد من المحافظين
حيث التزموا بالشعر العمودي، وبطرائق شعراء العصور الأولى، ومن شواهد ذلك
قول أحمد شوقي مخاطباً النيل:
دين الأوائل فيك دين مروءة ... لمَ لا يُؤلَّه من يقوت ويرزق
وقوله في الوطن:
ولو أني دُعيتُ لكنتَ ديني ... عليه أقابلُ الحتْمَ المجابا
أُديرُ إليك قبلَ البيتِ وجهي ... إذا فُهْتُ الشهادةَ والمتابا
وقوله مخاطباً شباب مصر:
وجهَ الكنانة ليس يغضب ربَّكم ... أن تجعلوه كوجهِهِ معبودا
ولُّوا إليه في الدروس وجوهكم ... وإذا فزعتم فاعبدوه هجودا
وقول بدوي الجبل:
فكان لله حكمٌ ... لشقوتي بل لسعدي
واختار بعدي عنه ... وراح يبكي لبعدي
ويقول ايضاً:
نشارك الله - جل الله - قدرته ... ولا نضيق بها خلقاً وإتقاناً
وأين إنسانه المصنوع من حمأ ... ممن خلقناه أطياباً وألحانا
ولو جلا حسنَهُ إنسانُ قدرتنا ... لود جبريل لو صغناه إنسانا
ويقول النجفي:
لم أشارك غيري لأني كربيَّ ... واحد لا شريك لي في القوافي
هذه أمثلة لكثير مما تضمنه الشعر التقليدي الحديث من زيغ وضلال. بل إن
كثيراً منالأدب القديم يحمل في طياته انحرافات خطيرة في مجال الأخلاق والعقائد،
فهناك كثيرون من الأدباء الفساق والزنادقة، وهناك أدباء للمعتزلة والخوارج
والرافضة سخروا أدبهم لخدمة معتقداتهم الباطلة، وهناك الشعراء الذين عاصروا
الرسول -صلى الله عليه وسلم- وسخروا شعرهم لهجائه والاستهزاء به وبأصحابه.
وإذا فإن ما زعمه بعض المنحرفين من الربط بين تحديث الأدب والانسلاخ
من العقيدة ومجاراة بعض المخلصين لهم بسبب ما تضمنه الأدب الحداثي من
انحرافات عقدية أمر غير صحيح. فتحديث الأدب والتخلي عن طرائق السابقين
ومفاهيمهم النقدية أمر لا علاقة له بالعقيدة، فكما أن سير الأديب على منهاج
الأقدمين لا يبرر قبول أدبه المنحرف؟ كذلك فإن اتباع الأساليب الجديدة، وتبني
المفاهيم النقدية الحديثة ليس مبرراً سليماً لرفض ذلك الأدب إذا كان سليماً من
الناحية العقدية. فالمعيار العقدي الفكري لا مجال لاستخدامه إلا فيما يتعلق
بالمضمون الفكري للنص. أما بالنسبة للمعايير النقدية فالأمر فيها واسع، ومن حق
الناقد أن يرفض ما لا يوافق ذوقه ومفاهيمه النقدية.
وإذا كان بعض المنحرفين فكرياً قد حاولوا تبني مصطلح الحداثة واحتكاره،
وهو مصطلح براق، فإن هذا لا يعني التسليم لهم بذلك، بل ينبغي تسمية المنحرف
بالاسم الذي يليق به كما كان السلف يسمون أمثال هؤلاء بالزنادقة والمارقين.
ويلاحظ أن السلف لم يتلقوا الأسماء التي سمت بها بعض الفرق نفسها بالقبول ولا
سيما إذا كانت أسماء براقة تتضمن التزكة والثناء، فقد رفضوا تسمية المعتزلة
لأنفسهم أهل العدل والتوحيد وسموهم المعتزلة، وسموا الشيعة بالرافضة بدلاً من
وصفهم لأنفسهم بأنهم شيعة علي -رضي الله عنه-.
وهناك مسألة مهمة مرتبطة بقضية تحديث الأدب، وهي مسألة الدعوة إلى
كسر قواعد اللغة العربية، وهذا أمر مرفوض. والفرق واضح بين التجديد في
الأدب، وبين العبث باللغة، إذ أن هذا الأمر يمكن أن ينتج عنه نتائج خطيرة
تتصل بفهم النصوص الشرعية وتفسيرها، ويؤدي إلى الاضطراب والخلخلة في
فهم العقيدة والشريعة.