ماجد محمد الحمد
(التشيع الصفوي والتشيع العلوي) كتاب ألَّفه المفكر الإيراني الشيعي (علي شريعتي) ، قصد من خلاله تصحيح بعض جوانب الغلو في التشيع الحالي ـ الذي دعاه بالتشيع الصفوي ـ رأى أنها لا تمتُّ بصلة إلى التشيع الأصيل ـ في زعمه ـ والذي يسميه بالتشيع العلوي، حيث كرَّس التشيع الصفوي مبدأ الطقوس الوثنية والنصرانية والشرك والخنوع والكذب والتقليد الأعمى المقيت الذي تبنَّته الدولة الصفوية؛ لإحداث شرخ في تدين الناس؛ حتى لا يتأثروا بالدولة العثمانية المنافسة والمخالفة لها في المذهب، وتغذية العداء التاريخي بين الطائفتين السنية والشيعية والتمايز بينهما؛ من خلال المغالاة في التشيع لإحكام السيطرة على العامة، حيث استطاع الصفويون خلال مدة وجيزة تحويل بلاد فارس ذات الأغلبية السنية إلى المذهب الشيعي الغالي تحت تهديد السلاح والفتك بعشرات الآلاف من السنة؛ تحقيقاً لأطماع سياسة طائفية توسعية.
ثم تلقف هذا التصنيف واشتهر على ألسنة الكُتّاب والنقاد مع تحويره إلى التشيع الصفوي، مريدين به: التشيع الخاضع للسيطرة الإيرانية ومرجعياتها الفارسية في قم، والعامل وفق أجندتها السياسية، والمؤمن بما يسمى (ولاية الفقيه) في طهران.
أما التشيع العربي فأريد منه: التشيع الرافض للسيطرة الإيرانية، المعتز بعروبته، والذي يقلد مرجعيات عربية في النجف، والرافض لولاية الفقيه.
ولا شك أن التشيع بشقّيه الصفوي والعربي واقع في حمأة الغلو والتطرف؛ فالتشيع قائم على ركيزتين أساسيتين:
ـ الأولى: الغلو في آل البيت، ودعوتهم من دون الله في الرخاء والشدة، وصرف كثير من العبادات إليهم؛ نسأل الله العافية.
ـ والثانية: الطعن في الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ بخاصة الشيخين ـ رضي الله عنهما ـ، وكذلك الطعن في أمهات المؤمنين زوجات المصطفى - صلى الله عليه وسلم - وخصوصاً عائشة وحفصة رضوان الله عليهما؛ بكلام يعف عنه الإنسان السوي فضلاً عمن يدعي النسبة إلى الإسلام.
وللأسف؛ فإن التشيع أصبح قابلاً للانحدار نحو الأسوأ، فكلما ازداد أحدهم غلواً ازدادت شعبيته والاحتفاء به، فنتج عن ذلك أن ما يُعدّ من أقوال الغلاة سابقاً أصبح في وقتنا الحالي من ضروريات المذهب الشيعي؛ كما يقول أحد أئمتهم.
فالغلو في التشيع سابق لقيام الدولة الصفوية بمئات السنين، فنظرة إلى كتاب (الكافي) للكليني كافية لمعرفة ما وصل إليه الغلو الفاحش في كتابٍ من أشهر كتبهم المتقدمة، لذا من الخطأ الاعتقاد بأن التشيع كان معتدلاً حتى جاء الصفويون فغلوا فيه، فالغلو بدأ مع بداية التشيع حيث حرّق علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أوائلهم في زمنه.
وليس ثمّة شك أن التشيع الصفوي الإيراني الحالي جمع السوأتين معاً؛ سوأة التشيع الغالي وسوأة الشعوبية الحاقدة على العرب، حيث طالت هذه النزعة الشعوبية المقيتة الشيعةَ العرب؛ حتى من كان منهم في منطقة الأحواز العربية ذات الأغلبية الشيعية والذين يعاملون مواطنين من الدرجة الثانية؛ بل لا يُعترف باللغة العربية لغةِ القرآن ولغة أهل البيت لغةً للتعليم في مدارسهم. ولم يسلم من حقد هذه النزعة الشعوبية الشيعةُ العراقيون اللاجئون إليها، حيث التنكيل بهم، وعدم الاعتراف بمرجعياتهم، وحشرهم في معسكرات تشبه معسكرات الفلسطينيين سابقاً بعد أن امتصت دماء أبنائهم في حربها مع العراق حيث جندت الكثير منهم في فيلق بدر لمقاتلة بلدهم تحت مظلة التشيع، فإيران تستخدم التشيع وسيلة لتخوين الأقليات الشيعية ضد بلدانهم؛ لتحقيق مكاسب سياسية لها، لكنها تخذلهم إذا تعارضت مصالحها مع مصالحهم، وتتناسى حينئذ تشيعهم!
لكن إذا كان التشيع الصفوي بهذه القتامة فليس يعني ذلك أن التشيع العربي بريء من هذا التطرف والغلو العقدي وإن اختلف سياسياً مع إيران، إذ إن من الخداع الذي يمارسه بعض الكُتّاب ـ للتسويق لبعض الأحزاب الشيعية العربية ـ الزعمَ أن التشيع العربي تشيّع متسامح خالٍ من الغلو وقابل للتقريب؛ لكون الخلاف معه ـ حسب زعمهم ـ محصور في جزئيات قليلة؛ لأنه رافض للهيمنة الإيرانية. فكأنما الخلاف مع الشيعة خلاف سياسي فحسب، فمتى ما رأينا منهم تبايناً سياسياً مع إيران تناسينا خلافنا العقدي الذي هو أسُّ المشكلة وسبب التنافر والتكفير.
ونظرة إلى واقع العراق يدرك من خلالها العاقل خطورة مثل هذا التصنيف حين يؤمن به بعض أهل السنة، فكثيراً ما تقرأ أن حزب المجلس الأعلى الشيعي بقيادة (الحكيم) وجناحه العسكري (فيلق بدر) ـ وهو حزب صفوي ـ يعمل وفق مصالح إيران، بينما التيار الصدري فهو على الخلاف منه يحركه التشيع العربي، الرافض للهيمنة الفارسية على بلاد العراق؛ لذا ينبغي التماهي مع مشروعه والعمل على تشجيعه والثناء عليه وإشراكه في تجمعات أهل السنة ومؤتمراتهم، ظناً أن عروبة هذا التيار ستنسيه الخلاف العقدي، حتى تفاجأ كثير من المتابعين للشأن العراقي من أهل السنة ـ ممن ليس للتحليل العقدي عنده كبير شأن ـ من وحشية هذا التيار وخصوصاً جناحه العسكري المسمى (جيش المهدي) حيث أعاد لذكراهم وحشية الصرب مع مسلمي البوسنة، حيث التفنن في التعذيب بصورة مقززة، وسحق العلماء وأئمة المساجد، والقيام بمجازر يذهب ضحيتها النساء والأطفال كما وقع في حي الجهاد، وتعظم المصيبة حين يكون القائم بمثل هذه الجرائم ممن ينتمي إلى القبيلة نفسها والمجرم جار للضحية وممن تربطه بها روابط النسب والقرابة، عند ذلك تدرك أن خداع تغييب التحليل العقدي في التعامل مع الفرق والجماعات أعظم مصيبة من خداع الانكفاء على التحليل العقدي وحده!
وإنك لتعجب من اختلاف الشيعة في العراق؛ فمن شيعة عَلْمانية إلى شيعة حركية إسلامية إلى شيعة صفوية أو عربية، ولكن عند عداء أهل السنة لا تلحظ هذا الافتراق، بل تجد تنافساً في إبادة أهل السنة، فاختلافهم اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد كما يتوهمه البعض، بل هو ـ فيما أحسب ـ شبيه باختلاف اليهود الشرقيين (السفارديم) واليهود الغربيين (الاشكنازيم) داخل فلسطين مع اتحادهم حيال المسلمين، بل إن عداء اليهود العرب أعظم وأشد من عداوة اليهود الغربيين!
فمن لم يعتبر من التاريخ، ولم تزل شلالات الدم في العراق غشاوة عينيه فيعرف عدوه من صديقه؛ فهو لن يتّعظ إلا بنفسه ساعةَ لا ينفعه ذلك.
ولا أحسب أن هناك حاجة إلى التذكير أنه لا مشاحة في استخدام هذا التصنيف ما دام في دائرة أن بعض الشر أهون من بعض، أو في دائرة توصيف فرق الشيعة وخلافاتهم الداخلية، أو استثمار هذا الخلاف بما يعود نفعه على المسلمين، ولكن ما نرفضه هو تسويق أن الخلاف السني الشيعي إنما هو خلاف سياسي لا عقدي، وحصره في التشيع الصفوي وحده، وخداع السنة ومخاتلتهم بأن التشيع العربي هو تشيع معتدل قريب لأهل السنة حتى يلدغوا من جحره مرات ومرات!