إعداد. محمد أحمد عبد الله
أراد كمال أتاتورك قبل ستين عاماً أن تكون تركيا دولة علمانية، لا تدين
بدين من الأديان.. وكان بعمله هذا ينفذ مؤامرة يهودية صليبية خطط لها قبل عدة
قرون، وتحطمت مخططاتهم طوال تلك المدة حتى جاء اليهودي «أتاتورك»
وتستر وراء شعارات كاذبة، كالتقدمية، والقومية، والتحضر، وفي غيبة الوعي
الإسلامي، وغيبة الرجال الأفذاذ الذين يتجمعون على الحق، ويعرفون كيف
يحبطون مؤامرات ومكائد العدو.. أقول في غيبة هؤلاء الرجال أقدم أتاتورك
وزبانيته على هدم الخلافة الإسلامية، واستبدال الحروف العربية بحروف لاتينية،
وأمر الناس بحلق لحاهم، كما أمر النساء بخلع الحجاب، ونكل بالعلماء والدعاة إلى
الله، ومنع الأذان بالعربية، وبعد هلاك الطاغية كمال أتاتورك سار إخوانه
وتلامذته من الاتحاديين وقادة الجيش وصنائع الغرب على نهجه..
وظن الطغاة أنه لن تقوم للإسلام قائمة في تركيا المسلمة بعد الآن، ولكن الله
سبحانه وتعالى أبطل كيدهم وأضل سعيهم.
ويحدثنا القادمون من تركيا عن مظاهر طيبة يرونها تثلج صدور المؤمنين
وتبعث الأمل في النفوس.. يحدثنا القادمون عن تمسك الشباب بدينهم ومحافظتهم
على صلاة الجماعة في المساجد، وعن التزام الفتيات بالحجاب الإسلامي في
الجامعات والمعاهد، كما يحدثنا القادمون عن عواطف الأتراك الجياشة نحو إخوانهم
العرب الذين يزورون تركيا، وبشكل أخص الملتحين منهم الذين يترددون على
المساجد.
وباتت اللحية والحجاب من أشد المخاطر التي تهدد زبانية أتاتورك، وقد
صدرت الأوامر بمنع الحجاب في الجامعات التركية، بل ومن شروط الالتحاق
بالجامعة حلق اللحى بالنسبة إلى الرجال، ووجوب سفور الفتيات، وقد واجه
المسلمون هذه الظواهر الخطيرة بحزم وقوة، ولنترك المجال لصحيفة «ديرشبيجل
الألمانية» الصادرة في أوائل شهر فبراير الماضي تتحدث عن الصحوة الإسلامية
في تركيا تحت عنوان «إنهم يتحدون أتاتورك» .
«إن موجة التجديد الإسلامي باتت تتحدى تراث أتاتورك، وقالت سعاد مير
الطالبة في الاستشراق التركي، بجامعة اسطنبول: (إن الله أمرنا بتغطية الرأس،
ولا يجوز أن يظهر غير الوجه والقدمان وكفا اليد، ولهذا السبب من واجبنا الديني
أن نضع غطاء الرأس، وفي حال حظره علينا سوف أغادر الجامعة) . وانبرت
صديقتها حنيفة أوجلو، الطالبة في الفلسفة لتأييدها بالقول: إني أحب الدراسة لكن
إذا منع غطاء الرأس يجب أن أمضي في سبيلي.
إن الشابات التركيات ساخطات على مرسوم منع الحجاب وغطاء الرأس في
حرم 28 جامعة تركية، وابتداء من أول هذا العام، ولا يسمح للطلبة الذكور
بولوجها بلحية؛ لأن هذه علامة ظاهرة على التزمت الديني الإسلامي.
وكل من يخالف هذا المنع يتلقى إنذاراً في البداية، ثم يحظر عليه حضور
المحاضرات الجامعية، ويفصل من الجامعة.
ويستند المرسوم الجديد لقرار من المحكمة الإدارية العليا مفاده أن التحجب
بكل أنواعه مخالف للدستور؛ لأنه موجه ضد النظام الاجتماعي العلماني للجمهورية
التركية.
وقد اعترف الرئيس التركي كنعان إفرين بانتشار الحجاب واللحية في
الجامعات يقول:» توجد أصولية في تركيا هي خطرة على جمهوريتنا العلمانية
مثل الشيوعية والفاشية «..
وقد اتضحت عودة الروح الدينية إلى تركيا المسلمة بمعدل 99 بالمائة من
سكانها عندما تظاهر خمسة آلاف شخص بعد صلاة الجمعة في جامع بايزيد في
اسطنبول في منتصف الشهر الماضي، وهتفوا من أجل (تركيا إسلامية) وحملوا
على أكتافهم نجم الدين أربكان رئيس حزب الخلاص الوطني. إن المطالبة بإعادة
الدولة الدينية تستهدف صرح تركيا الحديثة التي أسسها كمال أتاتورك عندما فصل
بلاده عن الماضي العثماني لكي تلحق بركاب العالم (الحديث) ، فألغى الخلافة،
وفصل الدولة عن الدين، واستعاض عن الخط العربي بالحروف اللاتينية، وقام
بثورة ثقافية، وفرض تحديثاً متطرفاً قضى على الحجاب واللحية والطربوش الذي
كان إلزامياً لكل موظفي الدولة. ومنذ ذلك الحين يعتبر الجيش نفسه حارساً لتراث
الرفيق العسكري أتاتورك، وكلما ساوره الظن بأن الدولة والدستور في خطر
استولى على الحكم، وأعاد النظام إلى النصاب الذي يفهمه هو.
لكن العسكريين بالذات ساعدوا التجديد الإسلامي هذه المرة على الظهور
الحاسم عندما وافقوا عام1982 على بند دستوري أوكل إلى الدولة الإشراف على
تعليم الدين للمرة الأولى منذ أتاتورك، وسرعان ما شقت الروح الدينية المكبوتة
طريقها وزاد عدد المعاهد الدينية من اثنين عام 1980، إلى ثمانية معاهد. وتريد
حكومة تورجوت أوزال المحافظة إنفاق 80 مليون دولار هذا العام على تدريس
القرآن الكريم، وينبغي منذ بداية الشهر القادم أن يرتاد الأطفال المسيحيون أيضاً
دروس الدين الإسلامي، وبعد أتاتورك بستة عقود زمنية يتبين الآن أن مؤسس
تركيا الحديثة استخف بمتطلبات شعبه الدينية، وقد حقق المثقفون الأتراك اللحاق
الفكري بأوربا لكن جماهير الشعب لم تستطع اللحاق بهم، وقامت العلمانية في تركيا
فوق فراغ أدى في السنوات الأولى للجمهورية إلى أزمة في الهوية، بسبب رفض
الفكر الإسلامي المتراكم؛ لأن الإسلام كان جزءاً جوهرياً من تفهم الذات التركية،
فالشعر والفولكلور متطبعين ببيئة إسلامية، والموسيقى ظلت شرقية، وقوانين
الآداب والأعراف بقيت إسلامية، ولاسيما في الأرياف.
إن دور رئيس الحكومة في الخلاف حول تراث أتاتورك العلماني هو على
الأقل موضع شك، فهو ينكر وجود رجعية إسلامية على الرغم من أنها ملموسة في
كل مكان من البلاد. وهو نفسه مسلم متعبد وكان المعلمون في دروس القرآن يلقنون
الأطفال بأن الصداقة بين الفتيات والفتيان من الموبقات التي تسد باب الجنة.
ويرفض موظفو الوزارات الصعود في مصعد كهربائي واحد مع نساء داخل
مباني حكومية، فهذا أيضاً خطيئة في نظر الأصوليين. وفى غضون شهر رمضان
لا يوجد في الوزارات والدوائر طعام وشاي وقهوة، وقد وافقت الحكومة على مبلغ
من المال لبناء جامع في الحديقة أمام البرلمان ليقوم من يريد من النواب بتأدية
الصلاة فيه، وكان النواب المتدينون في زمن أتاتورك يتسللون إلى غرف منزوية
للصلاة. إن عدد الجوامع في البلاد ازداد بأكثر من من ثلاثة أضعاف في العقود
الأخيرة وارتفع إلى 72 ألف جامع وهناك أكثر من 600 قرية بدون مدارس لكن
في كل واحدة منها جامع خاص بها. وقد أصبح تعلم مهنة إمام أو خطيب في
الجامع مرغوباً فيه بشكل لا مثيل له. وكان 4200 طالب فقط يتعلمون هذه المهنة
في 19 مدرسة عام 1961، فقفز عددهم إلى229 ألف طالب في 716 مدرسة عام
1985. ولم يعد الجيش نفسه في مأمن من العدوى الإسلامية، ففي جامعة أضنة
كشف الرئيس إفرين النقاب مؤخراً أمام الطلبة عن تسريح 96 طالباً من معهد
الضباط بسبب ميول دينية متطرفة كانوا بين 813 طالباً من أفقر فئات الشعب في
المعهد، وفسر إفرين هذا التشريب الديني بأبعاده المتفشية على نطاق واسع بين
العوائل الفقيرة التي ترسل الأبناء الأذكياء إلى مدارس ومعاهد دينية حيث يتلقون
العلم والمأوى مجاناً، وحذر إفرين بقوله: إذا لم تطفأ النار في وقت مبكر فإن من
الممكن أن يلتهم الحريق الدار كلها.
وهذا هو رأي عسكريين قياديين منذ أمد قصير، وقد اجتمع الجنرالات
الأعضاء في مجلس الأمن القومي لتركيا مؤخراً في نادي الجيش بأنقرة، وكانوا
يرتدون ملابس مدنية، وحرروا برئاسة رئيس هيئة الأركان العام (نجدات أورك)
رسالة تحذير موجهة إلى قيادة الدولة جاء فيها:
إن القوات المسلحة قلقة للغاية من زحف الأصوليين المسلمين وتتوقع أن يتم
بسرعة وقف الرجعية الدينية المتنامية. ووجه أورك تحذيراً لا التباس فيه إلى
الشعب بقوله: (توجد في هذه البلاد قوانين وحكومة ودستور وجيش يعرف ما
ينبغي القيام به) .
إن ما يفهمه الجنرالات الأتراك كواجب عليهم قد أظهروه عام 1960 و1971
و1980؛ فقد تسلموا السلطة المدنية بأيديهم وعطلوا الدستور، وفعلاً، تتهامس
الأوساط السياسية في تركيا حول تكهنات بانقلاب عسكري قريب، ويتناقل الناس
في كل مكان بهمس (إن الجزمات العسكرية تمسح الآن ثانية في الثكنات لكي يتم
الزحف على الحكم دون عوائق) .
وإذا كان القادة العسكريون يهددون بانقلاب جديد يقتلع البرلمان، ويحكمون
البلاد من خلال قانون الطوارئ.. فهذه الأساليب لا تخيف الدعاة الصادقين ولا
ترهبهم.. ومنذ ستين عاماً والانقلابات العسكرية مستمرة، والهيمنة لقانون
الطوارئ، ومع ذلك فقد عاد الناس إلى كنف ربهم، وأعرضوا أشد الإعراض عن
أتاتورك ودينه ودستوره، والجيش الذي يستخدمه الطغاة هو من هذا الشعب المسلم، وسوف يختار أخيراً الإسلام وينهض من سبات نومه، ولن ينسلخ الابن عن أبيه
وأمه وإخوانه وأساتذته.
أما قول الرئيس التركي: [اذا لم تطفأ النار في وقت مبكر، فإن من الممكن
أن يلتهم الحريق الدار كلها] وقوله أيضاً: [توجد أصولية في تركيا هي خطرة على
جمهوريتنا مثل الشيوعية والفاشية] . فالخطر كل الخطر في بعد تركيا عن الإسلام
واستبداله بدين جديد اسمه العلمانية، وفي ظل هذا الدين الجديد أصبحت تركيا
محمية من محميات الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن كانت أكبر دولة في العالم،
وكان الغرب والشرق يرتعد خوفاً وهلعاً من السلاطين الأتراك الذين كانوا يفتحون
البلدان، وينشرون الإسلام، ويحطمون الطغيان.
والذي ننصح به إخواننا في تركيا أن يستفيدوا من أخطاء إخوانهم في بقية
البلدان الإسلامية، وأن لا يستدرجوا إلى معارك جانبية تستنزف طاقاتهم..
وليحذروا أشد الحذر من الباطنية ودعاتها وأجهزة إعلامها، ويبدو أن مجلة (دير ...
شبيجل) قد اعتمدت على مصادر باطنية أو على مصادر متعاونة مع ... الباطنيين، وليستعرضوا تاريخنا القديم والحديث أو على الأقل تاريخ تركيا منذ عدة قرون، وسوف يعلمون أن هؤلاء الباطنيين كانوا يتحالفون مع كل عدو كافر ضد تركيا المسلمة، والتاريخ يعيد نفسه، والباطنيون لا يقبلون أن تعود تركيا كما كانت دولة مسلمة قوية تدافع عن الإسلام والمسلمين.. وكل الذي يبحثون عنه أن يبثوا سمومهم في هذا البلد الطيب، ويجندوا ضعاف النفوس ليقيموا حلفاً بينهم وبين غلاة الباطنية في تركيا، ويكون هذا الحلف المشبوه ستاراً لنشر أفكارهم وتفريق الصف الإسلامي..
ونعتقد أن المحاولات التي بذلوها، والفتن التي روجوها خلال عدة سنين
كافية للاقتناع لمواجهة هذا الأخطبوط الباطني، فليراجع إخواننا الدعاة في تركيا
حساباتهم، وعندئذ سيعلمون صدق وأهمية ما ننصحهم به.