في الدعوة والواقع
د. سليمان التميمي
يلاقى الدعاة إلى الله صنوف الأذى بدءاً من مضايقتهم، والتجسس عليهم،
والتصنّتِ على كل مكالماتهم، ومراقبة أعمالهم، وتتبع حركاتهم، وإحصاء أنفاسهم
وأقوالهم، وروحاتهم وغدواتهم، وأصحابهم وجلسائهم، وانتهاءً باعتقالهم وسجنهم،
وضربهم أو قتلهم، وأخذهم بصورة لا تليق بكرامة الإنسان. ويستقبل الدعاة هذا
كله برحابة صدرٍ، وصبر واحتمال، وهم يعلمون أنّ العاقبة للمتقين، والبشرى
للصابرين، وأَنّ نصر الله - لا ريبَ - آتٍ والعجلة لا تقدّمه، كما أن التريث لا
يؤخره، محتسبين ما يجري عليهم من ظلمٍ وإفك، وأذى واضطهادٍ عند الله، ولله.
وهم مع هذا متمسكون بدينهم، لا يتقهقرون عن دعوتهم، ويطلبون أن يخلى
بينهم وبين الشعوب الإسلامية لدعوتها وإصلاحها، قياماً بالواجب الذي افترضه الله
على عباده المؤمنين:
[ومَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ]
[ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ]
وهم في حالهم تلك لا يسألون الناس أجراً، يفرحون بهداية المهتدين، وعودة
التائبين:
[وجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا
مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وهُم مُّهْتَدُونَ]
هذا وصف داع للإجابة، دالٌّ على الصدق:
[ومَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إنْ أَجْرِيَ إلاَّ عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ]
ويتحملون ما يأتيهم من الأذى والاضطهاد ممَّن يدعونهم، ولا يؤاخذونهم على
ما يصدر منهم من أذى، بل يعرضون عنه كأن لم يسمعوا ولم يروا:
[فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا ولَمْ يُرِدْ إلاَّ الحَيَاةَ الدُّنْيَا]
والإعراض- هنا- ليس هو ترك الدعوة، ومقاطعة المعرضين، بل عدم
مؤاخذة المدعوين، بما يصدر عنهم من أذىً، مع الاستمرار في الدعوة والبلاغ،
والحرص على الخير.
وفيما هم على هذه الحالة، يعترض طريقهم المتنفذون من أصحاب الجاه
والدنيا، يقطعون عليهم طريق الدعوة إلى الله، ويحاربونهم من أجلها، لا يطلبون
أن يميّزوا بمعاملة خاصة، أو يعطوا شيئاً ليس لهم - وهم أقرب الناس إلى الزهد
فيما هو من حقهم، ولهم - بل يطلبون مساواتهم بالمجرمين، من قطاع الطرق،
والسراق، وغيرهم - وهو أمر مع ما يحمله من الظلم البين والإجحاف مطلبٌ
يمنعه أصحاب السلطان - وذلك بإحالتهم إلى القضاء. إذ أن هؤلاء إذا قُبض عليهم
أحيلوا على الشرع لإقامة حكم الله فيهم، بخلاف الدعاة الذين يحالون إلى الجلادين
من الشرط ورجال الأمن والاستخبارات بطريقة لا تمت إلى الإنسانية، فضلاً عن
الإسلام بصلة. أليس هذا الطلب عادلاً، بل متواضعاً، بل ظالماً، ومع ذلك يرض
به من نذروا أنفسهم ومالهم ووقتهم لدعوة الناس إلى الخير.
ويا لها من أمةٍ منكوبة، جعلت دعاة الإسلام يتواضعون إلى هذا الطلب
الجائر، على حين أن الواجب أن يجعل الدعاة فوق الهام، وأن يؤخذ برأيهم، وأن
يقدموا في كل شيء.
هذه حال الدعاة في الدول التي تدعي الإسلام. أمّا الدول التي أعلنت براءتها
من الإسلام، وانخلعت من ربقته بجعل التحكم إلى الجاهلية، والقوانين الوضعية،
والبراءة من الإسلام في دساتيرها، فالأمر فيها أسوأ، فإن مطلب الدعاة فيها أن
يعاملوا معاملة إنسانية، تليق ببني آدم، على وفق ما تنادي به دول الكفر التي
تدعي الديموقراطية، ورعاية حقوق الإنسان التي من أبسطها في نظرهم حرية
التعبير.
وللدعاة مطلب آخر من حملة العلم والمؤمنين من عباد الله بأن يؤازروهم
ويقفوا معهم، ويشاركوهم في دعوتهم التي كلف بها كل مؤمن، ويدفعوا عنهم كل
إفك وزور، وكل شر يتربص بهم، وإن لم يكن هذا فعلى الأقل أن يقفوا موقف
مؤمن آل فرعون الذي قال:
[أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وإن يَكُ كَاذِباً
فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وإن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَذِي يَعِدُكُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ
كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ المُلْكُ اليَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إن
جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إلاَّ مَا أَرَى ومَا أَهْدِيكُمْ إلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ] [1] .
فأين المشايخ وحملة العلم من هذا الموقف؟ ! إن الدعاة يتوقعون من هؤلاء
أن يقفوا هذا الموقف على أقل تقدير، إن لم يكن منهم قيادة للدعوة وتصدر وزعامة، ويرجون أن لا يأتي منهم خذلان في وقت الحاجة إليهم. وقد قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا
يحقره» رواه مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
ألا فليعلم هؤلاء المتنفذون أصحاب الجاه، المتحكمون في شئون أمة محمد -
صلى الله عليه وسلم- أن للباطل جولة، يعود بعدها الحق إلى الظهور، ثم تكون
الغلبة له، وأن هذا الدين ما جعله الله آخر الأديان إلا ليعمَّ الأرض كلها:
[هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى ودِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ولَوْ كَرِهَ
المُشْرِكُونَ]
وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد قال: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ
الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعزٍ عزيز، أو بذلٍ ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر» رواه ابن حبان.
وأن الله قد وعد بإعلائه ونصره على الرغم من كيد الكائدين وعداوة الكفار
والمنافقين، وسيكتب الخزي على المنافقين والمرجفين:
[يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ واللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ ولَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ]
ألا فليعلم الذين يخادعون الله أن الله خادعهم، وأن الصدق والوضوح خير من
النفاق والخداع، وأن الشعوب تعلم حقيقة أمرهم، وأنهم قد فقدوا مصداقيتهم أمام
شعوبهم، وقد قال رسول الله -صلى الله علمه وسلم-: «إنها ستكون أمراء
يكذبون ويظلمون، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ولا يرد عليَّ الحوض ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا
منه، وسيرد عليَّ الحوض» أخرجه الإمام أحمد عن أربعة من أصحاب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم- ورضي عنهم، وهم أبو سعيد الخدري، وكعب بن عجرة، والنعمان بن بشير، وحذيفة بن اليمان.
ولا أظنُّ عصراً تجلى فيه الكذب مثلما تجلى في هذا العصر، بوسائل
إعلامه من إذاعة وتلفاز وصحف، وغيرها. حتى صار في مقدور هذه الوسائل أن
تحول الظلم إلى عدل، والنهب إلى رجولة وذكاء، والباطل إلى حق، والكذب إلى
صدق، والخيانة إلى أمانة، ولكن هذا كله يبق محصوراً في فئة من الناس وفي
مكان محدود، وفي زمان معين ثم تنكشف الحقائق ولو بعد حين، فيعود كل شيء
إلى أصله ووضعه الطبيعي، ويتصور هؤلاء أن حقيقتهم لن تكشف، وبواطنهم لن
تظهر، وسرائرهم لن تعلن وقد أخطأوا في هذا الظن وسيقال لهم:
[وذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الخَاسِرِينَ] [2] .
ألا فليعلم هؤلاء المخذلون ممن نسبوا إلى العلم الشرعيّ، وحسبوا عليه أن ما
هم فيه محض ابتلاء والله ناصر دينه بهم أو بغيرهم:
[وإن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] [3] .
أخرج ابن أبي حاتم وابن جرير من حديث أبي هريرة أن رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- تلا هذه الآية، قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا
استبدلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا قال: فضرب بيده على كتف سلمان الفارسي ثم
قال: هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس «قال ابن
كثير: تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ورواه عنه غير واحد وقد تكلم فيه بعض
الأئمة والله أعلم به.
ألا فليعلم، ثم ليعلم هؤلاء أن الدين دين الله، وأنه لابد غالب والعاقبة للمتقين، وأن الله هو الذي يختار له أنصاره والمؤمنين به:
[ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ومِنْهُم مُّقْتَصِدٌ
ومِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضْلُ الكَبِيرُ] [4] .
وأن العاقبة تكون لهم ولمن ناصرهم في الدنيا، ويوم لا تنفع نصرة ولا
شفاعة:
[إنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا ويَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا
يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ولَهُمُ اللَّعْنَةُ ولَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] [5] .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.