الشيخ عبد الله بن حسن القعود
إلى إخوتي في الله خطباء الجمعة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحمد ...
الله تعالى وأصلي وأسلم على رسوله محمد بن عبد الله وبعد:
فتعلمون (وفقكم الله) أهمية خطبة الجمعة ومكانتها بين العبادات وما يتطلب ويتأكد فيها من إحياء وإظهار ما شرعت له، من عظة القلوب، وملامسة المشاعر التي أمرت هي من جانبها أن تتهيأ قلباً وقالباً جسماً وروحاً لاستماع الخطبة، الأمر الذي كماله المطلوب وتمامه الواجب الجاذب للقلوب، والشاحذ للهمم أن يكون الواعظ فيه قد اتعظ، والأمر قد ائتمر، وأول ما يتطلب الاتعاظ به في هذا الأمر حمايتها وحفظها من أن يتطرق إليها أو إلى شيء من أجزائها ولو ألفاظ الدعاء فيها ما ينقض الإخلاص فيها ويضعف التقبل لها. وأن تكون وفق منهجه صلوات الله وسلامه عليه فلا يخرج بها عنه.
وبتتبع منهجه صلوات الله وسلامه عليه نجد أن خطبه مليئة بالثناء على الله
وتعظيمه وبتذكير الناس بآلائه عليهم، بل وبأيامه وسننه فيهم ثواباً وعقاباً. قال ابن
القيم -رحمه الله- في ذكر خصائص يوم الجمعة: (إن فيه الخطبة التي يقصد بها
الثناء على الله وتمجيده، والشهادة له بالوحدانية، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-
بالرسالة، وتذكير العباد بأيامه، وتحذيرهم من بأسه ونقمته وتوصيتهم بما يقربهم
إليه وإلى جناته، ونهيهم عن ما يقربهم من سخطه وناره فهذا هو مقصود الخطبة
والاجتماع لها) [1] .
ومن هذا يعلم أن ما بدأ يظهر في خطب الجمعة في عالمنا المعاصر من تقليل
الثناء على الله فيها، بحيث يكاد يقف القول فيه في بعض الأحيان عند أقل ما يجب، بل ومن جعلها في بعض الأحيان مادة للثناء على أقوام بأعيانهم، أو النيل من
أقوام كذلك بأعيانهم، أمر مخالف لما كان عليه صلوات الله وسلامه عليه وما كان
عليه أتباعه بإحسان -رضي الله عنهم- وعلى من سار على نهجهم إلى يوم الدين.
وخذوا مثلاً المقارنة فيما يتعلق بالتركيز في خطب الجمعة ونحوها على الثناء
على الله سبحانه والارتباط فيها بمضمون ما شرعت له مما أجمله ابن القيم -رحمه
الله- خطب ابن القيم نفسه في مقدمات كتبه المنبىء عن منهجه في الخطب -رحمه
الله-، وخطب 0الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- المطبوعة ونحوهما،
خطب بعض الناس اليوم وما طرأ عليها في بعض الأحيان وقارنوا بينهما -أخذاً في
الاعتبار البحث عن روح التوحيد الخالص - لتروا أن أولئكم -رحمهم الله- لم
يسودوا ولم يؤموا ولم يبقوا بيننا بذكرهم المعطر للمجالس بتسخير أقلامهم وخطبهم
في مواقف محضة للثناء على المخلوقين وإنما الثناء على خالق المخلوقين.
ولا شك أن ذلك إدراك منهم -رحمهم الله- لروح التوحيد ولمراد الله سبحانه في قوله: [فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ] وفسر الذكر بالخطبة، ويشهد له حديث
(وحضرت الملائكة يستمعون الذكر) وفسر بالصلاة، ولا مشاحة فالأمر بالسعي للخطبة أمر بالصلاة ولن تكون الخطبة بالمعنى المطلوب الذي يصدق عليه أنه في جملته ذكر إذا تضمنت مدح أقوام بأعيانهم، أو ذم أقوام بأعيانهم، ولذا كان بعض السلف -رحمهم الله- يستسيغ لنفسه الكلام أثناء خطبة خطيب الجمعة إذا خرج فيها عن مقتضاها. قال صاحب المغني -رحمه الله-: (وكان سعيد بن جبير والنخعي والشعبي وإبراهيم بن مهاجر وأبو بردة يتكلمون والحجاج يخطب، وقال بعضهم: إنَّا لم نؤمر أن ننصت لهذا) [2] .
وقال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية: (فإن قلت كيف يفسر ذكر
الله بالخطبة وفيها غير ذلك؟ قلت ما كان من ذكر رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو
في حكم ذكر الله، فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء
لهم وهم أحقاء بعكس ذلك فهو من ذكر الشيطان وهو من ذكر الله على
مراحل) [3] .
ولا جرم أن يخرج هذا النفس من هذا العالم الجليل، فإن أمراً جعل شرطاً
لصحة صلاة الجمعة واعتبر جزءاً من مجموعها ومعلوم وجوبها العيني أنه يتعين
الاهتمام به وحمايته وأداؤه وفق المشروع كي لا يتطرق إليه نقص، فينسحب نقصه
عليها.
فيا اخوتي في الله القائمين على هذا الثغر العظيم، ثغر توجيه وإبلاغ وإمامة
وشهادة على الناس يوم يقوم الأشهاد: اعرفوا لهذا الموقف حقه، واذكروا به موقفكم
أمام الله يوم تستشهدون على الناس، اسلكوا فيه الطريق السوي الذي لا غلو فيه ولا
جفاء، فاستعمال الخطبة للنيل من أقوام بأعيانهم خروج بها عن الوسطية المطلوبة
فيها، والمبالغة فيها بالثناء على أقوام بأعيانهم خروج كذلك عن الوسطية المطلوبة
فيها. قال جابر بن سمرة -رضي الله عنه-: «صليت (يعني الجمعة) مع رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت صلاته قصداً وخطبته قصداً» ، رواه مسلم
وغيره، والقصد الاعتدال، فالمطلوب في خطب الجمعة ونحوها على وجه التقريب
والتمثيل أن يختار الخطيب أوصافاً وأعمالاً فاضلة مما وصف به المؤمنون في
القرآن الكريم والسنة المطهرة، فيحث عليها، ويرغب فيها، أو أوصافاً ذميمة
وأعمالاً سيئة من أعمال وأوصاف الكفار أو المنافقين أو فجار المسلمين، فيحذر
وينذر منها، أو منكراً ظاهراً؛ فيذكره بأوصافه دون تسمية أهله في مثل هذا المقام
المشترك في التقرب إلى الله بين المتكلم فيه والمستمع له، مبتعداً في لفظه عن
وحشي الكلام ومبتذله، بادئاً بتقرير وبيان التوحيد الذي بعث الله به رسله وأنزل به
كتبه، وبيان ما يناقض أصله أو كماله الواجب، فأصول الإيمان وأركان الإسلام،
فالفضائل والمسائل، وبإمكانه أن يربط الموضوع الذي يريد علاجه بتلك الأوصاف
لا بأعيان أهله كما فعل -صلى الله عليه وسلم-، عن عائشة -رضي الله عنها-
قالت:
«جائتني بريرة. فقالت: إن أحب أهلك أن أعدها لهم ويكون ولاؤك لي
فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها، فقالت لهم: فأبوا عليها، فجاءت من عندهم،
ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس. فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم
فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم-، فأخبرت
عائشة النبي -صلى الله عليه وسلم-. فقال» خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما
الولاء لمن اعتق «ففعلت عائشة -رضي الله عنها-، ثم قام رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- في الناس، فحمد وسلم في الناس، فحمد الله وأثنى. ثم قال» أما بعد، فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله تعالى؟ ما كان من شرط
ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وإن كان مئة شرط، قضاء الله أحق، وشرط
الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق « [4] .
وليعلم أن هذا التوبيخ لأشخاص في مخالفة قد لا تعد كبيرة، أما في الكبائر:
الشرك فما دونه، فقد قال جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-» كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه،
حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم «رواه مسلم. وفي باب الكبائر وما
ذكره العلماء حولها مادة واسعة للخطباء عند ظهور أي منكر، فلا يكاد شيء من
المنكرات الظاهرة يخرج عنها، وخذوا مثلاً كتاب الكبائر للذهبي -رحمه الله-،
وكتاب الكبائر للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، وكتاب الترغيب
والترهيب للمنذري -رحمه الله- ونحوها، وما أسلفته من انتقاء الأوصاف
الممدوحة من الكتاب أو السنة والحث عليها، أو المذمومة والنهي عنها، وربط
الموضوع المراد علاجه بها لا بأسماء أو أعيان أهلها كما سلف. فلنأخذ كذا المنهج
مخلصين متبعين عسى أن يتقبل الله منا هذه الطاعة وغيرها، وأن يحقق بذلك
المعنى العظيم الذي شرعت له الخطبة، من تعاهد الناس بين الفينة والأخرى
بالتذكير والتبصير، بل التعرف على مشاكلهم وأمراضهم أمراض شهوة أو شبهة،
لمحاولة علاجها بما جعله الله دواء وشفاء لها في قوله سبحانه:
[يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وهُدًى
ورَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ]
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.