فكر
محمد بن حامد الأحمري
تطورت في عصرنا هذا وسائل الدعاية لكل شيء بمقدار لم يسبق له مثيل،
هذه الدعاية في قضايا الكماليات ووسائل الراحة قد تكون معقولة إلى حد ما، لكن
الغريب من أصناف هذه الدعاية، الدعاية الفكرية لعامة الكتاب والشعراء والروائيين
إلى درجة تدفع إلى السأم وعدم الثقة بأي شيء يشتهر من كتاب أو كاتب أو صحيفة، فيجعلك هذا لا تثق بالشهرة لأي عمل، إذ قد يكون في غاية الرداءة والفساد لكن
جيوش الإعلام والترويج تحاصرك حتى تفقد بصيرتك. وقد حاصرتنا الدعاية في
زماننا ورفعت في وجوهنا مجموعة من الكتاب والمفكرين والأدباء، وألصقتهم في
وجوه ثقافتنا كرهاً، وألزمتنا بهم وحاصرتنا كتبهم في كل زاوية، وليس هذا
الحصار فقط بين العرب، بل لقد شكَت إحدى المستشرقات وقالت: إن أدونيس لم
يقل شيئاً ولكن اللوبي الأدونيسي هو الذي أعطاه الأهمية! . هذا الجيش الدعائي
من وراء كتاب صغار أو مغالطين كبار هو الذي أعطاهم أهمية كبرى في عالم
الكتاب العربي.
قال أحد القراء لقد رأيت كتب أركون ولفت انتباهي الدعاية الكبيرة لها؛
فذهبت مع القوم واشتريت منها وقرأت الأول والثاني فما أحسست بفائدة ولا
ساعدني الفهم، وقلت كاتب متعب ولكن زادت الدعاية للرجل فقلت في نفسي:
النقص في قدرتي على الدراسة والفهم، وسكتُّ وخشيت أن أقول لأحد: لا أفهمه،
حتى إذا كان ذات يوم جلست إلى قارئ وكاتب قدير وتناول كتاب (تاريخية الفكر
العربي الإسلامي) وقال: لقد حاولت أن أفهم هذا الكاتب أركون فما استطعت، فكأنما أفرج عني من سجن وقلت: رحمك الله أين أنت فقد كنت أبحث عن قارئ له يعطيني فيه رأياً، لا الذين أكثروا من الدعاية له دون دراية.
وحتى لا تضر بنا المبالغة في هذا إليك نموذجاً للدعاية الأركونية: علق هاشم
صالح مترجم أركون إلى العربية في آخر كتاب (الفكر الإسلامي نقد واجتهاد) ...
يقول هاشم: بعد أن تركت محمد أركون رحت أفكر في حجم المعركة التي
يخوضها بكل ملابساتها وتفاعلاتها، وهالني الأمر فكلما توهمت أن حدودها قد
أصبحت واضحة محصورة، كلما اكتشفت أنها متشابكة معقدة، شبه لا نهائية.
هناك شيء واحد مؤكد على أي حال: هو أن محمد أركون يخوض المعركة على
جبهتين جبهة الداخل، وجبهة الخارج، جبهة أًصوليي المسلمين، وجبهة أصوليي
المستشرقين:
وسوى الروم خلف ظهرك روم ... فعلى أي جانبيْك تميل؟ [1]
هذا مثل مما يفعل هذا المترجم، وقد يفاجئك مراراً بالمدح في وسط الكتاب أو
في المقدمة أو في الهامش [2] أو في لقاءاته مع أركون التي تمثل جزءاً كبيراً من
أعماله؛ فهذه طريقة في الكتابة جديدة إذ يُجري المترجم حواراً حول أفكار أركون
بعد كل فصل أو في آخر الكتاب كما في (الفكر الإسلامي قراءة علمية) ، أو (الفكر الإسلامي نقد واجتهاد) .
أثناء قراءة أعمال أركون قد تصادفه ينقد مدرسة عقائدية أو فقهية، ويحاول
أن يقول إنها خرافة، وأسطورة دغمائية كما يحلو له أن يكرر، وتقول: لعله
ينصر المدرسة الأخرى، فهو إما شيعي أو خارجي، ثم يخرج عليك في صفحة
أخرى وهو يعرض بعدم معقولية فكرة الإمامة لدى الشيعة [3] ، ثم في مكان آخر لا
يتفق مع الإسلام السني المتزمت في نظره [4] علماً أن السني عنده هم الأشاعرة،
وأما أحمد وابن تيمية فيدعوهما حنابلة متزمتين. وتحاول جاهداً أن تقف تماماً على
ما يريد فإذا هو متناقض لا يؤمن بشيء ولا يرى أن لهذا العلم أو التراث الإسلامي
أي مكانة إلا في عين المدارس النقدية الغربية؛ فما أقرته فهو الحق والمحترم -
كنص للدراسة ليس أكثر من نص بشري قابل للأخذ والعطاء - وما لا تقره
المكتشفات الأسلوبية اللغوية الاجتماعية والنفسية المعاصرة فإنه لا يرى إقراره
والاهتمام به لقدمه وتخلفه عن العصر.
ولعل كتاب (الفكر العربي) أول كتبه المترجمة إلى العربية وفيه تلخيص
غامض لجُل ما قال في الكتب الأخرى، وأشار فيه بكثير من التحفظ إلى آرائه في
القرآن والسنة والشيعة والحداثة والتجديد.
عند أركون أهداف واضحة لمن يستقرئ أعماله ويصبر على التزوير
والمراوغة واللعب بالكلمات في غير معانيها حتى يحصل على هدفه الكبير من كل
مشروعه وسيأتي بيان الهدف بعد ذكر وسائله إليه.
الوسائل:
أول وسائله نقد الكُتاب الإسلاميين الذين ليست لهم صلة بالمدارس الغربية في
الفكر، والذين ليس لهم إلمام بعلوم اللسانيات والاجتماع والنفس والنظريات التي
خرجت - فيما يرى - بعد الخمسينات من هذا القرن الميلادي، وبالتالي يطالبهم
بالمشاركة والدراسة لمستجدات النظريات الإنسانية الغربية، ثم هو يستخدم نظريات
ميشيل فوكوه في مسائل المعرفة والسلطة، ويرى تاريخية المعرفة وبكوْنها قابلة
للتغيير والتطوير والشمول، وأهم جوانب المعرفة التي يتحدث عنها المعرفة الدينية
بكل أبعادها، ويرى اعتبار المعرفة الإسلامية نموذجاً أسطورياً لابد أن يخضع
للدراسة والنقاش - كما سيأتي - ويرى المجاهرة باعتبار العلوم الإسلامية سياقاً
معرفياً أسطورياً يزعج المسلمين ويهز إيمانهم، ولكن لابد - كما يرى - من بناء
مفاهيم جديدة مستمدة من الاحتياجات الجديدة كما فعل السلف، ويرى أن هناك
مناطق عديدة في الفكر الإسلامي لا تمس ولا يفكر فيها مثل مسألة عثمان - رضي
الله عنه - وقضايا جمع القرآن، والتسليم بصحة أحاديث البخاري والموافقة على
الأصول التي بناها الشافعي، ويرى أنه يضع أساساً للاجتهاد وعقلانية جديدة [5] ،
وهو يرى أن الوعي الإسلامي قد انشق فيما بين السنة والشيعة، والوسيلة عنده
ليست بالتوفيق بين الجانبين ولا الانتقاء منهما إنما الوسيلة نقد الطرفين وهو يعتنق
(النقدية الجذرية) للطرفين وإسقاط كل الحجج التي بأيدي الجميع، وبالتالي فإن
النص السني مغلوط ومزور والنص الشيعي نص العدالة والعصمة مغلوط ومزور
وأسطوري، والمطلوب أن يتحرر كل من الفريقين من نصه فيتوحدان [6] .
الأهداف:
من أهم ما يهدف له أركون في كتاباته المكررة والمملة نزع الثقة من القرآن
الكريم وقداسته واعتباره نصاً أسطورياً [7] قابلاً للدراسة والأخذ والرد. وهو يغالط
كثيراً في معنى كلمة (أسطورة) ويقول: إنه يعاني من صعوبة هذه الكلمة على
أسماع العرب الذين يربطون بين هذه الكلمة وبين الأكذوبة أو الخرافة، لكن ما هي
الكلمة التي يستخدمها أركون في تعبيره عن القرآن باللغة الفرنسية التي يكتب كل
كتبه بها.
إنه استخدم كلمة MYTHصلى الله عليه وسلم وبالإنجليزية MYTH وكلتا الكلمتين تعني
الخرافة أو الحكاية والكلمتان جاءتا من الكلمة الإغريقية MUTHOS وهي تعني
في جميع اللغات الأوربية حكاية خرافية شعبية تتحدث عن كائنات تجسد - بصورة
رمزية - قوى الطبيعة والوضع الإنساني [8] .
ثم إذا سلم بهذه الأسطورة - بزعمه - فإنها أولاً لم تصلنا بسند مقطوع
الصحة؛ لأن القرآن -كما يقول - لم يُكتب كله في حياة الرسول - صلى الله عليه
وسلم - بل كُتب بعض الآيات ثم استكمل العمل في كتابة القرآن فيما بعد [9] وهذه
من المغالطات التي يسوقها أركون بكل سهولة ويخلط فيها ما بين قضية الجمع
وقضية الكتابة، وبزعم أن الظروف السياسية هي التي جعلت المسلمين يحافظون
فقط على قرآن واحد ويتركون ما عداه [10] .
ومن أجل أن يمهد لما يريد من إنكار القرآن سنداً في أول الأمر يدخل بعد ذلك
إلى نصوص القرآن فيشكك في القصص والأخبار ويرى أن التاريخ الواقعي
المحسوس هو الذي يحاكَم إليه القرآن، فالأخبار والآثار التاريخية هي الموثوقة!
ولنقرأ له هذا النص الذي يجد القارئ في كتبه كثيراً مثله يقول:
(ينبغي القيام بنقد تاريخي لتحديد أنواع الخلط والحذف والإضافة والمغالطات
التاريخية التي أحدثتها الروايات القرآنية بالقياس إلى معطيات التاريخ الواقعي
المحسوس) [11] .
ويرى أن القرآن عمل أدبي لم يدرس كما يجب إلا من قِبَل ندرة أهمهم عنده ...
(محمد أحمد خلف الله) عندما كتب عن القصص الفني في القرآن وقال إن ... القصة القرآنية مفتعلة، ويتحسر على عدم استمرار (خلف الله) ويذكر أن الأسباب التي لم تمكن (خلف الله) في عمله أنه راعى الموقف الإسلامي الإيماني أولاً، وثانياً: لنقص المعلومات. إذن فقد آل الأمر إلى أركون الذي سيهاجم القرآن؛ لأنه لا يراعي الموقف الإسلامي الإيماني لأنه مطلع على الأبحاث الجارية. ومع زعمه أنه يعرف الأبحاث الجارية التي كتبها فوكوه والحاخام دريدا؛ فإنه يظهر للقارئ بشكل يجعله لا يثق في قدرة أركون ولا أنه فهم ما زعم فهمه من قضايا المعرفة ونقد اللاهوت ونظريات البنيوية وما بعدها [12] ، ويعاني في عرضه للأقوال من عدم التوثيق أو القول الصحيح لما ينقل؛ إذ يقلب كل قضية قرآنية أو تفسيرية أو سياق لعلم حتى يفسد المعنى ويلويه إلى ما يريد كما مر معنا في مسألة كتابة القرآن، ومثال آخر يعرِّف الوحي بقوله: " إنه يُدعَى بالتنزيل أي الهبوط من فوق إلى تحت " [13] .
معاني القرآن:
لو تجاوزنا قضية شكه في القرآن وردّه للسنة من باب أَوْلى فماذا يفسر به
القرآن وكيف يفهمه، إنه يقول: " إن القرآن - كما الأناجيل - ليس إلا مجازات
عالية تتكلم عن الوضع البشري، إن هذه المجازات لا يمكن أن تكون قانوناً واضحاً، أما الوهم الكبير فهو اعتقاد الناس - اعتقاد الملايين - بإمكانية تحويل هذه
التعابير المجازية إلى قانون شغال وفعال ومبادئ محدودة تطبق على كل الحالات
وفي كل الظروف " [14] .
ويقول في موضع آخر:
(إن المعطيات الخارقة للطبيعة والحكايات الأسطورية القرآنية سوف تُتلقَّى
بصفتها تعابير أدبية، أي تعابير محورة عن مطامح ورؤى وعواطف حقيقية يمكن
فقط للتحليل التاريخي السيولوجي والبسيكولوجي اللغوي - أن يعيها
ويكشفهما) [15] .
ويفصل أركون بين القرآن والشريعة، فالقرآن عنده " خطاب مجازي يغذي
التأمل والخيال والفكر والعمل ويغذي الرغبة في التصعيد والتجاوز، والمجتمعات
البشرية لا تستطيع العيش طيلة حياتها على لغة المجاز " [16] ولكن هناك البشر
المحسوسون العائشون - كما يقول - في مجتمع وهناك أمورهم الحياتية المختلفة
التي تتطلب نوعاً من التنظيم والضبط وهكذا تم إنجاز الشريعة [17] ثم يعقب بأن
هناك مجالاً أسطورياً مجازياً وهو مجال القرآن، ومجال آخر واقعي للناس هو
مجال الشريعة ويقول: (إنه وهم كبير أن يتوقع الناس علاقة ما بين القرآن والشريعة التي هي القوانين الشرعية وأن المناخ الميثي (الأسطوري) الذي سيطر على الأجيال السابقة هو الذي أتاح تشييد ذلك الوهم الكبير، أي إمكانية المرور من إرادة الله المعبر عنها في الكتابات المقدسة إلى القوانين الفقهية (الشريعة) وحجته في ذلك ما يلي: في الواقع أن هناك أنواعاً مختلفة من الكلام (من الخطاب) وهناك فرق بين خطاب شعري أو ديني، وخطاب قانوني فقهي أو فلسفي، ولا يمكن لنا أن نمر من الخطابين الأولين إلى الخطابات الأخرى إلا بتعسف واعتباط) [18] ألا ترى ... أنك يا أركون قد استطعت أن تمرق من الخطابين.
مكانة السنة عنده:
ليس هذا مجالاً لمتابعة هذه الأقوال والرد عليها، فيكفي هنا التعريف بمعالم
فكره بما فيها جرأته على الشك في ثبوت وصول القرآن إلينا، وجرأته على نفي
الحديث والزعم بأن الظروف السياسية وأوضاع المجتمعات التي انتشر فيها الإسلام
احتاجت إلى أحاديث وقال: (إن السنة كُتبت متأخرة بعد موت الرسول - صلى ...
الله عليه وسلم - بزمن طويل وهذا ولَّد خلافات. لم يتجاوزها المسلمون حتى اليوم
بين الطوائف الثلاث السنية والشيعية والخارجية، وصراع هذه الفرق الثلاث جعلهم
يحتكرون الحديث ويسيطرون عليه لما للحديث من علاقة بالسلطة القائمة) [19] .
وهو يرى أن الحديث هو جزء من التراث الذي يجب أن يخضع للدراسة النقدية
الصارمة لكل الوثائق والمواد الموروثة كما يسميها [20] ، ثم يقول: (وبالطبع فإن
مسيرة التاريخ الأرضي وتنوع الشعوب التي اعتنقت الإسلام - قد خلقت حالات
وأوضاعاً جديدة ومستحدثة لم تكن متوقعة أو منصوصاً عليها في القرآن ولا في
الحديث، ولكي يتم دمجها وتمثلها في التراث فإنه لزم على المعنيين بالأمر أن
يصدقوا عليها ويقدسوها إما بواسطة حديث للنبي، وإما بواسطة تقنيات المحاجة
والقياس) . [21]
الشريعة والحياة تلك هي مكانة الشريعة عنده وهذه مكانة أحاديث الرسول -
صلى الله عليه وسلم - إذ لا يرى أي تشريع جاء به القرآن، وأن القرآن خطاب
أدبي عاطفي لا علاقة له بالحياة، والشريعة ضرورة اجتماعية أملتها ظروف
المجتمع وحاجة الناس، وهي في مجموعها تراث إذا قابلت في الطريق ثقافة
مجتمع آخر أو استجد شيء فإن هذا الجديد يدمج في هذا التراث بواسطة حديث أو
قياس، وهو يناقض نفسه تماماً، إذ لو لم تكن الشريعة من غير هذين المصدرين
كأساس لما سعى المعنيون بالأمر - كما يسميهم - لفعل ما كذبه عليهم. وهذا مثال
واحد كبير من الغث والانحراف والكفر الذي يملأ به كتبه، كله يناقض بعضه
بعضاً، وكفاه زوراً أو جرأة على كتاب الله قوله: (وليس في وسع الباحثين أن ...
يكتفوا اليوم في الواقع بالتكرار الورع للحقائق الموحى بها في الجزيرة العربية في
القرن السادس والتي طُرحت منذئذ على أنها بآن واحد مما يمكن تعريفه واستخدامه
وأنها متعالية) [22] وهو يرى أن الباحثين - يعني نفسه ومَن تابعه - (إذ حتى كبار الكفار من المستشرقين لم يحملوا على القرآن والسنة والأمة ... كالحملة التي يقودها أركون ولم يستطيعوا القول بكل هذه الافتراءات في آن واحد) لا يسعهم تطبيق القرآن لأنه نزل في الجزيرة في ذلك الزمن القديم، وهو لا يرى نفسه وهو يقدس ويستسلم لبقايا قوانين الرومان، بل ويحاسب الإسلام على أفكار فوكوه هل تتطابق معها أم لا، ويقول في نفس الوقت بأن القرآن حقائق، وقد ... سبق أن قال إنه مجازات عالية وقد أجمع القائلون بالمجاز على أن كل مجاز يجوز ... نفيه ويكون نافيه صادقاً في نفس الأمر [23] ، علماً بأن المجاز بالأسلوب الذي ... يريده أركون أبعد بكثير من المجاز الذي حدث فيه الخلاف بين المسلمين والذي قال ... فيه الشنقيطي إن وروده في القرآن غير صحيح ولا دليل يوجب الرجوع إليه من نقل ولا عقل ونحن ننزه القرآن على أن نقول فيه مجاز بل نقول كله حقائق. [24]
ونقل الشنقيطي عن عدد من العلماء عدم جواز المجاز في اللغة أصلاً فضلاً
عن القرآن وهو - أي الشنقيطي - ممن يرى هذا، وأركون لا يرى أن آيات
الأحكام هي المجاز، ولا آيات الصفات كما قال بعض السابقين المخالفين لأهل
السنة، لكنه يرى كل القرآن مجازات عالية، ومرة يقول متعالية أي تكون بعيدة
عن المجتمع سياسة واقتصاداً واجتماعاً، إنما تهذيب روحي لا علاقة له بالدنيا.
وليس هذا مكان الحديث عن المجاز ولا الخلاف فيه. لكن جاء بمناسبة خلط
أركون وتناقضه؛ إذ يقول: القرآن حقائق نزلت قديماً ثم يرجع ويقول مجازات
عالية. إن أركون يهدم كل شيء ولا يقيمك على سنن ولا يثق بأحد ولا بعلم أحد،
فهو يسخر من كل مَن سبقه حتى يسخر من الطبري ومن طريقته في التفسير. وما
دام قد اجترأ على كتاب الله وسنة رسوله كل هذه الجرأة فماذا يتوقع القارئ عن
غيرها. وهناك جوانب عديدة يستنكرها كقضايا الثواب والعقاب والبعث بعد
الموت [25] . ويرى في آيات القرآن التي تحدثت عن الجنة وثوابها سياقات شعرية، وأيضاً يرى رمزية العذاب.
خلاصة:
يرى أركون أن القرآن والكتب السابقة تعاني من سياق واحد، ويضع القرآن
مع الأناجيل في مستوى من الثبوت والدراسة واحد، وبرى أهمية النقد والتجديد.
وعمله هذا النقدي السلبي النافي - الذي يمسخ كل الحقائق وكل المعاني - لا يمكن
بحال أن يكون مذهباً فكرياً بديلاً؛ بحيث يحل محل شيء من الفرق أو الجماعات
التي وجدت على الساحة الإسلامية وليس بأسلوب يمكن قبوله من قِبل السنة أو
الشيعة؛ ذلك أنه يلغي الجميع ويرى العدمية [26] التي يقدمها هي البديل أو التجديد، فالشك والجحود بكل شيء لن يكون أبداً بديلاً للإيمان، إذ هذا العدم لا يكون ديناً
ولا يبني خلقاً، وهو يرى - مع هذا - ضرورة النظام في حياة الناس ويرى أهمية
القوانين وهذه القوانين عنده تنشئها الضرورة الاجتماعية، لكن أي مجتمع وأية
قوانين، أما المجتمع فلا يرى أركون أن يكون للإسلام سلطة عليه؛ لذا فليس
للإسلام أن يسن أي قانون في ذلك المجتمع إذ ليس للإسلام في نظره أي قانون ولا
علاقة بالوجود، وهو قد بذل وعصر كل سمومه وآفات الملحدين في الغرب لينكر
المصادر أولاً ثم لو افترض إثباتها فليس لها حقائق ولا معاني تمس الناس، ثم إذا
فهم منها معاني فتلك المعاني جاءت للحاجة والضرورة؛ لأنه لم يكن هناك قوانين
في المجتمع. وقد علق أحدهم على نمط تفكير أركون وأسلوب تعامله مع النصوص
فقال: إن تجديدية أركون هي تجديدية عدمية ولا نحسب أن مسلماً عاقلاً يهتم لقراءة
أركون النافية [27] وهذا ملخص لبحث مطول يتناول كتب ومقالات أركون، ومع
أن أعماله غير معقولة لكن - ويا لَلأسف! - إن الذي يتحكم في سلوك وأفكار العالم
الإسلامي اليوم هو (اللامعقول) لهذا يحتاج إلى بيان.