مجله البيان (صفحة 761)

البوطي ... والمنهج

عبد القادر حامد

(إن من طبيعة المنهج، أياً كان، أنه يكتشف اكتشافاً ولا يبدعه ... ... الباحثون والعلماء إبداعاً ... ) [ص60، من كتاب البوطي السلفية] . ...

يكتشف الباحث منهج البوطي - وهو منهج من المناهج على كل حال - من

خلال استقراء ما يكتب، غير أنه مع تقديمه هذه المقدمة الحاسمة لا يترك لنا حرية

اكتشاف هذا المنهج بأنفسنا، ولا ندري ماذا وراء ذلك: هل هو شك في قدرات

قرائه، وعدم اطمئنانه إلى أنهم قادرون على الاكتشاف؟ ؛ لذلك يعرِّف لهم المنهج

حتى لا يتركهم في حيص بيص؟ أم أن كلمة المنهج عنده كلمة من جوامع الكلم.

لها معانٍ كثيرة يصعب حصرها؟ ! لا ندري!

لذلك يعرف لنا المنهج كما يلي:

ماذا نعني بالمنهج؟ وما الشروط التي يجب أن تتوفر فيه؟

إننا نعني بكلمة (المنهج) المعنى الذي يريده كل أولئك الذين يستعملون هذا

المصطلح في نطاق دراساتهم وبحوثهم العلمية، نعني بها الطريقة التي تضمن

للباحث أن يصل إلى الحق الذي يبتغيه، ولا يضل في السعي إليه بين السبل

المتشعبة، ولا يلتبس عليه بالحق فيركن إليه ظاناً أنه الحق الذي يبحث عنه ويسعى

إليه، سواء أكان هذا الحق الذي يبحث عنه خبراً يريد أن يتبين صحته أو أن يعلم

مضمونه، أم أطروحة علمية يريد أن يعرف دلائل صحتها أو بطلانها) [ص60

من كتابه] .

أما أنا فقد قرأت هذا التعريف عدة مرات متهماً عقلي بعدم القدرة على فهمه،

لعل الإعادة تفتح لي ما انغلق، وتكشف ما استتر، ولكنني أخيراً سلمت بأن هذا

التعريف أشبه ما يكون بالشعر الحر الذي لا تستسيغه أذواق وعقول الكثير من

القراء؛ إما لفقر وتخلف في مقدرتهم الثقافية أو لفراغه وخُلوه من أي معنى، وكل

من الرأيين له جمهوره وقائلون به.

إن من صفات التعريف أن يصاغ بعبارة جامعة مانعة محددة حتى يتمكن

القارئ من الفهم، وخاصة في القضايا العلمية، لكن البوطي لا يأبه - كما قلنا -

بما تعارف الناس عليه، ويحب أن يأتي بما لم يأتِ به الأوائل! كيف لا؛ وهو

أديب فنان يطمح - وهو في قمة تسنُّمه مهمة البحث العلمي - أن يستخدم العبارات

المجنحة التي تلفت إليه الأنظار.

وها نحن نبدأ بتحليل تعريفه للمنهج لعلنا نظفر بما عجزنا عنه أثناء القراءة.

يقول: (إننا نعني بكلمة (المنهج) المعنى الذي يريده كل أولئك ... الذين يستعملون هذا المصطلح في نطاق دراساتهم وبحوثهم العلمية) . اقرأ هذه العبارة ورددها مرة ومرة ومرة، هل تفهم منها تعريفاً، وهل تزيدك علماً بشيء؟ طبعاً لا! فمَن هم أولئك الذين يستعملون هذا المصطلح؟ من أي ملة هم؟ . وأي دراسات وأي بحوث؟ ، لعل التوضيح يأتينا بعد كلمة (نعني) ! (نعني بها الطريقة (طريقة ماذا؟) التي تضمن للباحث أن يصل إلى الحق الذي يبتغيه) . كل باحث يعتقد أن ما يقوله ويصل إليه هو الحق، فهل هذا هو الحق في المنهج الإسلامي؟ وكثير من بغاة الباطل يطلقون على مبتغاهم اسم الحق!

وقبل أن نخرج من هذه الدوامة في تعريف المنهج، يدرك البوطي بكياسته

وذوقه الدقيق جداً أننا بحاجة إلى تحديد كلمة الحق، فيحددها، وكأنه أحس أن

تعريفه يحتاج إلى شروط كي يصبح تعريفاً له شَبه بالتعريفات، فهل تظن أنه يُقر

عينك بذكر هذه الشروط ليجعلك تشعر بالراحة وتتنفس الصُّعَداء؟ !

لا، لن تفرح بذلك! فهذه مشكلتك، عليك حلها بنفسك! اسمعه يقول:

(وأما شروطه (المنهج) فبوسعك أن تعرفها من خلال إدراكك لطبيعته ...

ومهمته) . وإذا ما أخفقت في معرفة هذه الشروط فهذا يعني أنك لا تدرك طبيعة المنهج ولا مهمته! وإذن فأنت لست جديراً أن تكون من قرائه، ولست مقصوداً فيما يكتب؛ لأنه:

عليه نحت القوافي من معادنها ... وما عليه إذا لم تفهم

إن القارئ سيصيبه الدوار إذا ما ظن أنه - بترديده ما كتب البوطي عن

المنهج - يمكن أن يظفر بشيء، وسوف يكتشف أخيراً أن الرجل يتلاعب بعقله

ليوهمه أن ما كتب حول المنهج له معنى متماسك، إنك تطالبه بشروط المنهج حتى

تتضح معالمه فيقول لك: (بوسعك أن تعرفها من خلال إدراكك لطبيعته ومهمته) ،

ثم يمضي بك موهماً أنه ذكر شروطاً، لكن حين تريد أن تضع بداية ونهاية لهذه

الشروط وتحصرها في عبارة واضحة لها دلالة فإنك تطلب المستحيل!

وتمضي في القراءة لتعثر على عبارة تظن أنها ستفتح لك ما استغلق،

وتكشف ما غمض، فتكاد تصيح مثل أرخميدس: (وجدتها) ، إنها قوله:

(إذن فمن أهم شروط سلامة المنهج ... ) لكنك تتبين أن هذه العبارة وما بعدها ليست بداية الشروط، بل نهايتها، واخيبتاه! فترجع أدراجك إلى الفقرة السابقة وقد فركت عينيك ووسعت حدقتيهما وأحددت النظر بهما لتبحث عما كانت العبارة السابقة فذلكة له فتجد شيئاً مثل:

(فقد كان الإنسان بحاجة إلى أن يرصد خطوات هذا المنهج في أغوار فكره، وأن يتلمس آثارها في شغاف وجدانه (العرب تعرف شغاف القلب، فما الوجدان؟ وما شغافه؟ !) وساحة شعوره، ثم يصوغها في عبارات دقيقة، ويصبها في قواعد منضبطة، ثم يجعل منها مشعلاً هادياً في طريقه إلى المعرفة، وملاذاً يتقي به الشرود في أودية التيه والضلال.

وهكذا فإن تحول المنهج الفطري من شعور وتفاعل خفي في الفكر والنفس

إلى قواعد مدونة مضبوطة ماثلة للعيان، من شأنه:

أن يجمع شوارد الأفكار عليه، وأن يبعد عوامل التلبيس والكيد عن التسلل

إلى ساحة المعرفة، ودائرة النظر والمحاكمة العقلية في الذهن، في حين لو بقي

شعوراً غامضاً في النفس وفطرة مستكنة في أغوار الفكر؛ لأمكن أن تتسلل إليه

الشوائب، وأن تحاط بعوامل الغموض والريب، وأن يغشي عليها المبطلون

بزخرف القول وزيف الأدلة الباطلة) . [ص61]

أرأيت إلى هذه الخطبة العصماء خطبة ولا خطبة زياد البتراء!

سنحاول أن نشير إلى خطوط عريضة في منهج البوطي - الذي هو غير

منهج السلف قطعاً، وكون منهجه غير منهج السلف أمر يسره ويسر السلف والحمد

لله - وسنستخدم عبارته هو في طريقة تناولنا لهذا المنهج المبتكر! فنحن ليس لنا

حياله إلا: (الرصد، ثم الاكتشاف، ثم الصياغة والتقعيد. أما الإبداع والاختراع

فإن المنهج أبعد ما يكون عن أن يأتي ثمرة لذلك) :

1- استهانة بالمراجع:

يتعامل البوطي مع المراجع تعاملاً غريباً وعجيباً، وكما سبق أن قلنا، فإنه

يخرق الأعراف والتقاليد، ويحب دائماً أن يكون نسيجاً وحده، فتراه يحيلك على

كتب ويذكر أرقام أجزاء وصفحات، فتحب أن تتأكد لا من النقل ذاته والإحالة

نفسها أحصلت أم لا- ولكن من سياق العبارة، فتفاجَأ بعدم وجود ما يتحدث عنه

البتة، كما حدث في صفحة 47 من كتابه حيث أحال على كتاب (الاعتصام)

للشاطبي، ج2، ص242، وبعد الرجوع إلى هذا الموضع من كتاب الاعتصام لا

تجد أثراً للموضوع الذي يتحدث عنه.

وكذلك فعل في صفحة 37 فأحال على (المدخل) لابن الحاج، ج4، ص

155 ولا أثر لما أحال من أجله في ذلك الموضع! بل وجدنا في (المدخل) 4/

157 ما يلي: (وقد نقل عن السلف - رضي الله عنهم - أنهم كانوا لا ... ينخلون الدقيق، ونخله من إحدى البدع الثلاث المحدثة أولاً) ؛ لكن البوطي يجعل هذه العبارة هكذا: (ومعلوم أن الروايات تواردت (!!) عن السلف أنهم كانوا ... في أول عهدهم لا ينخلون الدقيق وأنهم يرون نخله بدعة) . [ص39] ، وكذلك فعل ... في أكثر من مكان فمما يتعلق بإحالاته على (فتح الباري) ؛ ففي صفحة 135 أحال ... على (الفتح) ، ج 7، ص82 وج3، ص315 ولم نجد في هذين الموضعين شيئاً مما ذكر، بل وجدنا ما له تعلق بثاني الإحالتين في ج3، ص342، وسنرجع إلى هذه الإحالة لنرصد ماذا فعل البوطي بها من الأفاعيل!.

وأمر آخر يخرق البوطي به الأعراف العلمية، ويبعج البحث العلمي بعجاً،

وهو تداخل عبارته بالعبارة المنقولة أو المحال عليها، فيصبح بين العبارتين تزاوج

أو اتحاد، ولا يمكن التمييز بعدُ بين عبارة الناقل وعبارة المنقول له، وتمتزج

الأمور بصورة طريفة، وهناك أمثلة كثيرة في كتابه لهذا الأمر، وسنكتفي بذكر

مثال واحد - مع أنه مثال طويل - ولكن ماذا نفعل؟ ! فإن البوطي يأبى إلا أن

يحمل قراءه على أصعب الخطتين. وهذا المثال إحالة إلى (الرسالة) للشافعي.

يتكلم البوطي كلاماً طويلاً لسنا الآن بصدد تحليله، ثم يختم كلامه هذا برقم

ترجع إليه في الحاشية لتقرأ: انظر باب (العلم) من كتاب (الرسالة) للإمام الشافعي

357 بتحقيق أحمد شاكر، وتتحير بعد قراءة هذه الحاشية: هل هذا الكلام الذي

سبق وكتبه هو كلامه أو كلام الشافعي؟ أو شرح لكلام الشافعي؟ إن كان كلامه؟

فَلِمَ أَحال على الرسالة؟ .

وإن كان كلام الشافعي؛ فَلِمَ لَمْ يحصره بين حاصرتين حتى نعرف بدايته

ونهايته؟ !

وإن كان شرحاً لكلام الشافعي فلِم لم يذكر ذلك؟ كلها أسئلة تحتاج إلى جواب. ...

ومع أننا سنجد صعوبة في تحديد بداية نقلنا لكلامه ذاك، لكننا سنلجأ إلى

الخرص والتخمين في ما يمكن أن يكون بداية - ونحن مكرهون على ذلك يشهد الله، ومعذورون لذلك إن أخطأنا التحديد. يقول: (فإذا فعل المسلم ذلك؛ فلا بد أن

يصل إلى العلم بحقائق هذا الدين الذي جاء به كتاب الله. وسيجد عندئذ أن هذا العلم

ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: علم يشمل عامة الناس، على اختلاف مداركهم ومنازلهم العلمية، ما داموا عقلاء راشدين. فلا يعذر أحد في جهله، ولا سبيل إلى اقتحام شيء منه بأي تأويل له أو تنازع في فهمه أو خطأ في روايته. وهذا العلم يشمل كليات العقائد وبدهيات الفروض والأحكام، كالعلم بفرضية الصلوات الخمس وأن لله على الناس صيام شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وأن عليهم زكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الربا والزنا والقتل والسرقة والخمر.

فهذا الصنف من العلم موجود كله نصاً في كتاب الله، ومعروف عند أهل

الإسلام عامة، ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله -

صلى الله عليه وسلم - ولا يتنازعون في حكايته ولا وجوبه.

وسبيل هذا الصنف منه هو ما يسمونه بقطعي الدلالة والثبوت. أي كل نص

وصل إلينا من مصدره بطريق التواتر، وكانت صياغته ودلالته على معناه من

الوضوح بحيث لا يحتمل أي تأويل له أو أي خطأ في فهمه.

ومن أحكام هذا النوع من العلم أن الناس كلهم مكلفون به، ولا يسع بالغاً غير

مَغْلوبٍ على عقله جهلُ أي شيء منه. ومن أحكامه أيضاً أن الاجتهاد غير وارد فيه؛ إذ الاجتهاد قد لا يرقى بصاحبه في كثير من الأحيان فوق درجة الظن، وقد يقع

فيه الخطأ، ثم إن الناس متفاوتون في القدرة عليه، مختلفون في النتائج التي

يصلون به إليها. وهذا القسم من العلم مبرّأ، كما قد أوضحنا، من ذلك كله) .

[ص73 من كتابه] .

أما كلام الإمام الشافعي المحال عليه فهو:

(قال الشافعي: فقال لي قائل: ما العلم؟ وما يجب على الناس في العلم؟ ؛ فقلت له: العلم علمان: علم عامة لا يسع بالغاً غير مغلوب على عقله جهله.

قال: ومثل ماذا؟

قلت: مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج

البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة

والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كُلِّفَ العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من

أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه: ما حرم عليهم منه.

وهذا الصنف كله من العلم موجود نصاً في كتاب الله، وموجوداً عاماً عند

أهل الإسلام، ينقله عوامهم عمن مضى من عوامهم، يحكونه عن رسول الله، ولا

يتنازعون في حكايته ولا وجوبه عليهم.

وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، ولا يجوز

فيه التنازع.

قال: فما الوجه الثاني؟

قلت له: ما ينوب العباد من فروع الفرائض، وما يخص به من الأحكام

وغيرها، مما ليس فيه نص كتاب، ولا في أكثره نص سنة، وإن كانت في شيء

منه سنة، فإنما هي من أخبار الخاصة، لا أخبار العامة، وما كان منه يحتمل

التأويل ويُستدرك قياساً.

قال: فيعدو هذا أن يكون واجباً وجوب العلم قبله؟ أو موضوعاً عن الناس

علمه، حتى يكون من علمه منتفلاً ومن ترك علمه غير آثم بتركه؟ أو من وجه

ثالث، فتوجدناه خبراً أو قياساً؟

فقلت له: بل هو من وجه ثالث (. [الرسالة، ص 357] .

ومن هذين النصين المنقولين يظهر لنا أن كلام الشافعي يختلف عما أوهم

البوطي أنه كلام الشافعي، وأن القارئ العادي الذي قد يكون على عجلة من أمره قد

يغتر بتلبيسه بتلك الحاشية المدلسة التي تجعله يظن أو يعتقد أن الشافعي قال ذلك

الكلام!

فقارن مثلاً بين عبارة الشافعي حيث يقول:

(وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، ولا ... يجوزفيه التنازع) وبين ما فهمه البوطي منها بقوله:

(وسبيل هذا الصنف منه هو ما يسمونه (مَن هم؟ !) بقطعي الدلالة ... والثبوت، أي كل نص وصل إلينا من مصدره بطريق التواتر (الشافعي لم يذكر ...

التواتر) وكانت صياغته ودلالاته على معناه من الوضوح بحيث لا يحتمل أي

تأويل له أو أي خطأ في فهمه) .

وقل مثل ذلك في إشارته إلى كتاب (الفرق بين الفرق) للبغدادي عند تعرضه

للمرجئة في ص112، حيث عرَّف المرجئة تعريفاً لم يشر إليه البغدادي لا عند

إشارته إلى المرجئة إجمالاً في أول كتابه ولا حين فصَّل القول في هذه الفرقة

ومذاهبها فيما بعد. وتفصيل عبث البوطي في هذه القضية وحدها يحتاج إلى مقال

خاص.

أما قصته مع ابن تيمية فهي أمر يحتاج إلى وقفة خاصة ليس هذا وقت

الحديث عنها. ولكننا نكتفي بضرب مثال على تصرفه وتلاعبه بكلام ابن تيمية من

أجل أن يقيم الحجة عليه وعلى مَن ينصر آراءه، وأسلوبه هذا يذكِّر بأسلوب الشيعة

في الاحتجاج، حيث إنهم ينتقون من آراء أهل السنة ما يظنون أنه حجة عليهم مع

أنهم لا يؤمنون هم - أي الشيعة - بمصادر أهل السنة، وهي عندهم لا تصلح

للاحتجاج؛ لأنها تعارض ما اصطلحوا عليه من أنه أدلة لهم.

يقول: (ومن ذلك ما رواه ابن تيمية - رحمه الله - عن جعفر الصادق (رضي الله عنه) ، من تأويله (الوجه) في قوله - تعالى -: [كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وجْهَهُ] [القصص: 88] ، بالدين. وما رواه عن الضحاك من تأويله (الوجه) في الآية ذاتها بذات الله والجنة والنار والعرش. أما هو - أي ابن تيمية ذاته - (بلحمه وشحمه وعظمه ودمه!) فقد رجح أن يؤول (الوجه) بمعنى الجهة، فيكون المعنى: كل شيء هالك إلا ما أريد به جهة الله - تعالى -.

ثم قال: (وهكذا قال جمهور السلف) [ص135] .

أما ابن تيمية فقد أشار إلى هذه القضية ضمن كلام رائع له في الرد على

القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، لكن البوطي اقتطع من كلام ابن تيمية ما

ظن أنه نصر لحجته، ثم يا ليته اكتفى بهذه الإساءة بل أشبع هذا المقتطع مسخاً

وتشويهاً، أما عن حقيقة الدافع له إلى ذلك: أهو الهوى أم قصر الباع أم ضيق

الصدر؟ فهذا ما نتركه للقارئ ليكتشفه بنفسه.

يقول ابن تيمية:

روي عن أبي العالية قال: (إلا ما أريد به وجهه) وعن جعفر الصادق: (إلا ... دينه) ومعناهما واحد. وهذا مخالف لقول البوطي: (روى ابن تيمية عن

جعفر الصادق) ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى معلوم ماذا يعني اصطلاح: ... رُوي، بالبناء للمجهول، عند أهل الحديث.

ثم نقل ابن تيمية ما ورد من الأقوال في الآية على عادته في الاستقصاء،

وهو من خلال سوقه لهذه الأقوال يتوقف مناقشاً مؤيداً أو معترضاً، وقد يستطرد

قليلاً لجلاء نقطة يرى توضيحها من بحث لغوي، أو فقهي، أو تاريخي، أو غير

ذلك، ثم قد يعود لمتابعة نقله الأقوال، إما معضداً رأياً رآه، أو لاستبعاد وهم قد

يطرأ، وشبهة قد تثار. هذا هو أسلوب الرجل، وهو لذلك يحتاج إلى شيء من

الصبر وسعة الصدر حتى يُتذوَّق، وتنفتح عجائبه، وتكتشف أوابده، ولكن أنَّى

لرجل نَزِق ضيّق الصدر أن يصبر على ذلك؟ ! وكيف به إذا جمع إلى ذلك هوى

مستحكماً وعقدة نفسية من ابن تيمية؟ !

ثم بحث ابن تيمية عن اشتقاق كلمة (الوجه) مما يبدو أن البوطي لم يفهمه

لضيق صدره، فقال - أي ابن تيمية -:

(وذلك أن لفظ (الوجه) يشبه أن يكون في الأصل مثل الجهة، كالوعد ... والعدة، والوزن والزنة، والوصل والصلة، والوسم والسمة) . لكن فِعْلَة حذفت فاؤها وهي أخص من الفعل، كالأكل والإكلة، فيكون مصدراً بمعنى التوجه والقصد، كما قال الشاعر:

أستغفر الله ذنباً لست مُحصيَهُ ... ربَّ العباد إليه الوجهُ والعملُ

ثم إنه يسمى به المفعول، وهو المقصود المتوجه إليه، كما في اسم الخلق،

ودرهمٌ ضَرْبُ الأمير، ونظائره، ويسمى به الفاعل المتوجه، كوجه الحيوان،

يقال: أردت هذا الوجه، أي هذه الجهة والناحية، ومنه قوله: [ولِلَّهِ المَشْرِقُ

والْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وجْهُ اللَّهِ] [البقرة: 115] ، أي قبلة الله ووجهة الله،

هكذا قال جمهور السلف [مجموع الفتاوى: 2/429] .

ومن قراءة النص الأصلي لابن تيمية لا النص المحرَّف - نستنتج أنه لم

يؤول كما زعم البوطي بل استدل بما ورد من أقوال السلف في هذه الكلمة، وبلغة

العرب التي يهوِّل بها البوطي كثيراً حتى لتظنه الخليل بن أحمد أو ابن جني، وهو

ليس بذاك.

ولو ذهبنا لتتبع تعامل البوطي مع المراجع - في كتابه هذا فقط - لطال

الكلام، ولكن حسب القارئ الكريم أن يعرف أن هذه القضية فرع لما أشرنا إليه في

مقالنا السابق عنه من خيلاء ضارة، واستهانة بأقدار الناس أحياءً وأمواتاً، وسوء

تقدير لهم، وإساءة ظن بهم، قدر إحسانه الظن بنفسه، هداه الله.

التواء وتهويل:

الشيخ البوطي يحب التهويل، حتى ولو أوقعه هذا التهويل فيما لا تحمد عقباه، ... فمن حيث الأسلوب عنده القدرة التعبيرية التي تريك المهم هيناً، والهين السخيف

عظيماً ومشكلة لابد لها من هز الأكتاف وقرع الظنابيب، حتى يُتَغَلَّبَ عليها، وهذه

القدرة تذكرنا بالبراعة التي عُرف بها الفارابي في الموسيقى - فيما زعموا - أنه

في أحد مجالسه مع سيف الدولة لم يعجبه عزف العازفين الذين عزفوا أمامه،

وأظهر أخطاءً كثيرة لكل واحد منهم، فتعجب سيف الدولة من ذلك وسأله إن كان

يحسن هذه الفنون، فأجاب بالإيجاب، ثم أخرج من وسطه خريطة (جراب من

جلد) ففتحها وأخرج منها عيداناً وركبها ثم عزف بها، فضحك كل مَن كان في

المجلس، ثم فكها وركبها تركيباً آخر، وضرب بها، فبكى كل مَن كان في المجلس! ثم فكها وغيَّر تركيبها وضرب بها ضرباً آخر، فنام كل من كان في المجلس حتى

البواب! فتركهم نياماً وخرج!

وإليك هذه الفقرة التهويلية التي يمهد فيها لاكتشاف الصحابة والتابعين للمنهج

- والذي سبق أن سميناه منهج البوطي - ليقول:

(الآن، وقد اتضح لك ذلك؛ ينبغي أن نتبين حجم المشكلة الخطيرة التي انبثقت عن ذلك التطور الكبير، صحيح أن تلك العوامل أدت إلى خروج الصحابة من نطاق حياتهم الخاصة المتميزة التي فتحوا أعينهم من داخلها (مرجع الضمير هنا على حياتهم الخاصة أو على أعينهم؟ ! البوطي أعلم، وعلى كلا التقديرين فالكلام مستقيم! وهذه صفة جوامع الكلم!) على الإسلام ومبادئه، وساحوا تحت وطأة ظروف لا قِبَلَ لهم بالإحاطة بها أو السيطرة عليها، (مساكين الصحابة - رضي الله عنهم -!) في حياة جديدة (الجار والمجرور متعلق بساحوا) ذات آفاق أوسع غير أن المشكلة التي واجهتهم (انتبه! هذه مشكلة المشاكل) أنهم نظروا، فوجدوها آفاقاً بعيدة لا تستبين لها معالم ولا حدوداً. وليس في يدهم من وراء النصوص (نصوص كل من القرآن والسنة) مقياس يحددون به معالم تلك الحياة، بحيث يقيمون على أساسه ضوابط للسير فيها وحدوداً للوقوف عندها (ألا تكفي نصوص القرآن والسنة مقياساً لتحديد معالم تلك الحياة وأساساً تقام عليه ضوابط وحدود؟ يا شيخ! !) فكان ذلك مبعث اضطراب وقلق، وخلافات حادة، (مَن قال إن الإسلام جاء رحمة للعالمين؟ ! ألم يكن نقمة على الصحابة ومَن جاء بعدهم؟ ! وقد عانى الصحابة بسببه هذا العناء المعنى، وهذا الاضطراب والقلق والخلافات الحادة. هذا ما يفيده كلام الدكتور، وما شهدنا إلا بما علمنا!) ، بل سبباً في ظهور فرق وفئات شتى، اتخذت من تلك البيداء الواسعة طرائق متخالفة، بل متخاصمة، وكان لابد لهذه المشكلة أن تستمر بينهم إلى حين) . [ص45] .

هذا مقطع - فقط - من تهويلات الرجل. ولسنا ندري على وجه اليقين ما

الذي يدعوه إلى مثل هذه التهويلات، أهو قد استعار هذا الكلام من أحد المستشرقين، أو ممن تأثر بهم، ثم نسي المصدر، أو تناساه؟ ! ، إنه كلام يشبه كلام طه

حسين في كتبه التي عالج فيها التاريخ الإسلامي، كالفتنة الكبرى وغيرها، وإن

شئت فقل: إن كلامه عليه مسحة من اعتقاد الرافضة في الصحابة، أما عن تأثر

الشيخ بالمستشرقين فقد يكون الدافع له إلى ذلك عقدة النقص وحب الظهور عنده،

خاصة وأنه يدندن ويهول بمناظرات وما يسميه منازلات لبعض رموز من يطفون

على سطح الفكر حواليه ممن يسرّه أن يقرن بهم ويتمسح بمسايرتهم، وهذا واضح

من إصراره على تعبير (منهج المعرفة) وترديده له كثيراً في ثنايا كتابه، أليست

هناك مجلة شهيرة ليست على مبعدة منه - يكتب فيها من يتطلع إلى مسامتتهم اسمها

مجلة (المعرفة) ؟ ! .

إن كان الأمر كذلك فنقول له:

ألهى بني تغلِب عن كل مكرمة ... قصيدةٌ قالها عمرُو بن كلثوم!

وأضفْ إلى المثال السابق من أن كلامه أشبه بكلام المستشرقين، الفقرة ... ...

الأخيرة من ص 48 من كتابه فسوف تجد هذا الكلام لا يختلف عن مناهج ...

المستشرقين في تحليلهم ونظرتهم إلى الفكر الإسلامي بشيء.

وأما أن كلامه عليه مسحة من اعتقاد الرافضة في الصحابة فاقرأ كلامه التالي

الخارج من صدر ضيق تفوح منه رائحة الحنق: (فمن التزم بمقتضى هذا الميزان، فهو متبع كتاب الله متقيد بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سواء أكان

يعيش في عصر السلف أو جاء بعدهم، ومن لم يلتزم بمقتضاه، فهو متنكبّ عن

كتاب الله تائه عن سنة رسوله - عليه الصلاة والسلام - وان كان من الرعيل الأول

(يا لطيف) ولم يكن يفارق مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) ! ! [ص

79]

بل يحتج ببعض الرافضة ومؤلفاتهم، وفي مؤلفات أهل السنة غنية له ولغيره

على هذه القضية التي يعالجها [انظر الحاشية في ص43 من كتابه] .

بل يستنعج (يصبح كالنعجة بجامع النعومة وحب السلامة في كلٍّ) عندما

يتعرض للشيعة، فيشير إلى حقيقة معروفة عندهم، بل هي من أصول مذهبهم،

بل تكاد تكون أصول مذهبهم كلها قامت من أجل هذه القضية، وهي إنكار إمامة

الشيخين (أبي بكر وعمر) ، فتراه عندما يشير إليها كأنما يقترب من أفعى سامة

متربصة بمن يقترب منها، فيقول هذه العبارة التي تطفح بالوجل والتدسس والنعومة:

(وعلى سبيل المثال نقول: (لمجرد المثال فقط، فنرجو المعذرة!) إن ... إنكار إمامة الشيخين، وهو مذهب يراه كثير من الشيعة (وليس جميعهم! ولاحظ تنكير كلمة) مذهب (أيضاً) ليس كفراً، (الحمد لله) وإن كان خروجاً على الإجماع) [ص107] (يعني ماذا إذا كان خروجاً على الإجماع؟ !) ولنكن على ذكر من هذا الاعتذار الناعم حينما نناقش معه نزوله بساحة ابن تيمية وثورته وفورته وانتفاخ أوداجه هناك على شيء لم يخرق ابن تيمية الإجماع فيه قطعاً، ولكن ناقش دعوى الإجماع على قضية فهم منها أعداؤه - وأخيرهم البوطي - أنه يقول بهذا الرأي الذي ناقش دعوى الإجماع عليه، مع أنه لا يناقض نفسه - رحمه الله -.

ويقول في عبارة أخرى ملتوية:

(ومن ذلك ما يجزم به بعض الناس (! !) ، من أن في أئمة أهل البيت

مَن قد وصلوا إلى منزلة لم يبلغها ملَك مقرب ولا نبي مرسل! وممن يجزم بذلك

ويقرره في منشوراته، الإمام الخميني) .

لاحظ الالتواء في عبارة: (بعض الناس) ، ولاحظ ما في هذه العبارة: (من

أن في أئمة أهل البيت من قد وصلوا ... ) وكأنه لا يدري أن القول بعصمة الأئمة

الاثني عشر من أصولهم! وليس هذا فحسب، بل إنه سأل بعض علماء الشيعة

الإيرانيين عن كيفية اتفاق هذا الكلام مع أصول الإسلام وكلياته الأساسية فقال: إنها

غلطة من المترجم! فتعجب هو من (أن الكتاب طُبع منذ ذلك الحين مرات متعددة،

وغلطة المترجم لا تزال باقية!) [حاشية، ص112 من كتابه] .

ونحن أيضا نعجب، لكن لا من غلطة المترجم هذه ولكن من تعجبه وعدم

معرفته وتجاهله أن التَّقِيَّة من أصول القوم!

لكن مع هذا يبقى عندنا شك من إثارته هذا الاعتراض على مَن ذكر من علماء

الشيعة، وذلك أنه من المؤكد أن الشيخ قد حضر مؤتمراً لهم في لندن في 18 من

ذي الحجة 1410هـ الموافق 11/7/1990م للاحتفال بيوم الغدير [1] وشاهد ...

وسمع على الطبيعة - كما يقولون - كيف يفكر القوم، وكيف يحتفلون، وسُبَّت

أمامه وعلى مرأى ومسمع منه السنة وأهل السنة الذين ينتسب إليهم سباً مقذعاً،

ولكن لم يبلغنا أنه أنكر على دهاقينهم ذلك المنكر لا بقليل ولا بكثير من إنكاره الذي

ينكره على من يشاركونه عدم اعتبار الإمامة والعصمة والرجعة من أصول الدين،

بَلْهَ مشاركتهم له في أشياء أخرى! [2]

مشكلة المناخل! !

ولنختم هذه التهاويل بواحدة تعيدنا إلى حيث بدأنا إلى [ص46] من كتابه،

وهي مشكلة المناخل! ونحب أن تكون مُلْحة الوداع ومسك الختام، ولسنا - والله -

ندري مِمَّ نضحك أكثر؟ من هذه المشكلة التي ألقت بظلها الكئيب على الصحابة

الكرام وعصرهم؛ فكانت اختباراً لقوتهم وحكمتهم وصمودهم، وامتحاناً للمبادئ

التي تلقوها من محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن الله سلَّم! ...

نقول: نضحك أكثر من مشكلة المناخل هذه أم من عرض الشيخ لها واحتفاله

بها بتعاظمه المعهود، وأسلوبه الطريف الذي يزاوج فيه بين الخبر والإنشاء بركانة

وزكانة؟ حيث يقول:

( ... لقد ظهرت المناخل فيهم فجأة، (فجأة، وقعت عليهم وقوع الصاعقة!) ... وما كان لهم عهد بها من قبل، أين كانت مختبئة؟ ! بل من الذي اخترعها؟ !) ...

قد يجيب الشيخ لم يكن هناك سجل لبراءات الاختراع حتى نعرف مخترع المناخل!

ثم لا زلنا نطلب مزيد تعريف بالمناخل هذه فيزيدنا الشيخ شكوراً: (وهي من ...

أدوات التنعم والترفه في المأكل، مما لم يكن يعرفه العرب ولا المسلمون من قبل) . ...

(إن العرب عند الشيخ هم أكلة الضِّبَاب واليرابيع، وصورتهم عنده كصورتهم عند

الفرس عندما يتحدثون عنهم!) فما الذي ينبغي أن يتخذوه؟

أيتبعون في ذلك سنن الصحابة الذين من قبلهم، فيجتنبون استعمال المناخل

في نخل الدقيق، نظراً لأن ذلك بدعة مستحدثة وكل بدعة ضلالة (معاذ الله! هذا لا

يمكن!) أم يُجارون الزمن وتطوراته، (هذه أهون! لابد من مجاراة الزمن

وتطوراته!) وينظرون إلى المسألة على أنها من الأعراف المرسلة عن قيود

الاتباع وعدمه، ولا علاقة لها بشيء من الأحكام التعبدية التي قضى بها الإسلام؟ .

وأيا كان الموقف المتخذ، فما هو الميزان أو البرهان المعتمد في ذلك؟ .

حاشية تكميلية!

جواباً للقراء الذين لم يعرفوا الجواب الشافي على تساؤل الشيخ الثاني البادئ

بقوله: (أم يجارون الزمن....) نفيدهم أن الصحابة الكرام - بعد نقاش عاصف

أدى إلى ارتفاع اللهجة، وتكدير الخواطر، وأنذر بانفضاض مجلسهم على غير

اتفاق؛ مما كان سيكون له أشأم العواقب، وأقلها - لا سمح الله - شرخ (ونؤكد

على كلمة شرخ) في وحدة الكلمة، واجتماع الصف التي انتصروا بها على فارس

والروم ... نقول بعد تلك الحادثة التي كان سيكون لها ما بعدها جاروا الزمن

وأجمعوا على استعمال المناخل، عملاً بأخف الضررين! وهي قاعدة معتبرة في

الشريعة، ونخبرهم أنه ما كان لهم أن يصلوا إلى هذا الإجماع المبارك لولا المنهج

الذي صاروا إليه، وساروا عليه، والذي: رصده، ثم اكتشفه، ثم صاغه وقعَّده

الدكتور الشيخ، أو الشيخ الدكتور (البوطي) خلال العشر الأولى من القرن ...

الخامس عشر الهجري.

*يتبع *

طور بواسطة نورين ميديا © 2015