د. محمد محمد بدري
ليس كل ما يعلم يقال، وليس كل ما يقال يقال في كل وقت. ففي بعض
الأوقات يكون الصمت هو الواجب، فإذا استغل الأعداء هذا الصمت كان الكلام هو
الواجب. وهذا المقال محاولة للتوفيق بين واجب الصمت وواجب الكلام في طبيعة
الصراع بين الإسلام وأعدائه، وبعد قراءة المقال يكفي القارئ أن يفتح عينيه على
الواقع ليرى أمارات هذا الصراع، بل ربما يستخلص من الوقائع المعروضة نتائج
لم تلفت انتباهنا، أو أغفلناها خلال هذا المقال احتياطاً من التطويل ورغبة في
التحديد. وكل ما نتمناه أن يقوم في الحركة الإسلامية من يتصدون لكشف سبيل
أعدائها (سبيل المجرمين) حتى لا تبقى الحركة معرضة لهجماتهم دون عون أو
نجدة.
إن من سنن الله الجارية التدافع أو الصراع بين الحق والباطل، قال - تعالى-: [ولَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] [البقرة: 251] ،
فالله - عز وجل - يدفع بأهل الحق أهل الباطل، وهكذا يستمر الصراع بين
الأنبياء وأتباعهم، وأتباع الشيطان، بين الأنبياء والجماعات الضالة الذين يرفضون
حكم الله وشريعته ويتمسكون بحكم الجاهلية، ولن ينتهي هذا الصراع حتى تنتهي
الدنيا.
ولاشك أن للأفكار قيمة كبيرة كأداة من أدوات الصراع بين الحق والباطل،
وما سلوك الإنسان وتصرفاته
إلا نتيجة لأفكاره، فإذا تغيرت أفكاره بجهده هو أو عن طريق جهد غيره فإن
سلوكه يتغير، وهذا التغيير قد يصل إلى النقيض، فهناك فكرة قد تجعل إنساناً
ينحني ويسجد لصنم من الحجر، وفكرة أخرى تجعل إنساناً آخر يحمل الفأس
ليكسر ذلك الصنم ويحطمه!
ولأن الأفكار بهذا القدر من الأهمية في الصراع بين الحق والباطل فإنه ومنذ
تقرر في أوكار الصهيونية تدمير الخلافة الإسلامية وأعداء الإسلام يحرصون على
تخريب الفكر الإسلامي وتشويه العقل السليم من ناحية، ومن ناحية أخرى يقومون
برصد الأفكار الفعالة التى تحاول إيقاظ الأمة من سباتها، لكي يقضوا عليها في
مهدها أو يحتووها قبل أن تصل إلى جماهير الأمة فتصحح وجهتها أو تعدل
انحرافات أفرادها، ولتبقى الجماهير إذا اجتمعت تجتمع على أساس العاطفة وتحت
سلطانها، وليس على أساس (الفكرة.. والمبدأ..) .
وأعداؤنا يستخدمون في ذلك مراصد دقيقة تتلقى أي إشارة خطر عن فكرة أو
كتاب ربما قبل أن تصل الفكرة إلى جماهير الأمة! فماذا يفعل الأعداء عندما
تعطيهم مراصدهم تلك الإشارة؟ كيف يتصرفون ليحُولوا بينها وبين المجتمع الذي
يحاول صاحبها نشر الفكرة فيه؟
إنهم في البداية يتعرفون على الفكرة بدراستها دراسة دقيقة، ثم يبدأون فيما
يمكن أن نسميه مرحلة (المواجهة) وفي هذه المرحلة يبذل الأعداء جهداً ضخماً
ويستخدمون مواهبهم الشيطانية كلها حتى لا يكون لتلك الفكرة أي عائد أو نتيجة..
ووسائلهم في ذلك كثيرة، وهم يغيرون منها دائماً ويعدلون فيها تمشياً مع القاعدة
التى تقول: (إن كل فخ عُرف مكانه يصبح دون جدوى) ، فوسائلهم تتنوع حسب
الظروف مع المحافظة على المبدأ الأساسي وهو (تحطيم الفكرة أو شلّها) ! !
فهم تارة يصوبون ضرباتهم على اسم صاحب الفكرة وشخصه؛ لكي يصيبوا
فكرته بحيث يصلون إلى أن يصبح اسم صاحب الفكرة كافياً في النفور منها بل ومن
الكتاب الذي يضمها وعدم قراءته من الكثيرين الذين يحكمون على فكرة معينة أو
كتاب معين وفق انعكاسات حدثت تجاه صاحبها وبمقتضى الكلام عن صاحب الفكرة
والكتاب وليس من خلال جوهر الفكرة وما فيها من برهان.
وهم تارة يستخدمون طريقة (الهُتافات والشعارات) وهم في هذه الطريقة
يرتكزون على ميل أفراد الحركة الإسلامية إلى السهولة فيصوغون الفكرة في
مجموعة من الشعارات والهتافات فيتحول الأفراد عن (مشقة) البناء إلى (سهولة)
الشعارات والهتافات! !
وفي أحيان أخرى يستخدم الأعداء طريقة (التشويش) عن طريق إضافة
مجموعة من الأفكار الثانوية إلى الفكرة الأصلية بحيث تُضعف هذه الأفكار الثانوية
سلطان الفكرة الأصلية على العقول، ويكفينا أن ننظر في واقعنا لنرى كم مرة
طُبقت هذه الطريقة معنا وكم مرة شاركنا فيها دون وعي؟ !
وتارة أخرى يستخدم الأعداء أسلوب إثارة الشبهات.. فإذا خرجت الفكرة في
صورة كتاب يقدم أيديولوجية واضحة للصراع مع الأعداء، ألقوا على هذا الكتاب
ما يشوه صورته أمام أفراد الحركة الإسلامية، وخلقوا حوله شبهات كثيرة بحيث لا
يسهل إزالتها فينصرف أفراد الحركة عن مجرد الاطلاع على الكتاب لكثرة ما أثير
حوله.. ولا نريد أن نضرب أمثلة! فكم من كتب طيبة فرض أفراد الحركة
الإسلامية حول أنفسهم ستاراً حديدياً يمنعهم من قراءتها لهذا السبب!
وفي أحيان أخرى يستخدم الأعداء طريقة (الاستبدال) فيطلقون هم أنفسهم
فكرة جديدة تكون أقل ضرراً على مصالحهم من الفكرة الأصلية.
وهكذا يبقى الصراع مع الأفكار.. ونحن إذ اكتشفنا بعض التفاصيل عن
طبيعة هذا الصراع فبقية التفاصيل الكثيرة للصراع تبقى في الظلام، ويصعب
وصفها كما يصعب وصف بيت العنكبوت، وخاصة إذا كانت خيوطه تأتي من بعيد
ولا يحيط بها بوضوح إلا من وفقه الله - عز وجل - وأضاء بصيرته.
ولكننا إذا أردنا الإجمال قلنا إن الأعداء يحاولون أن يجعلوا من الداعية للحق
خائناً لأمته ومجتمعه الذي يعيش فيه، فإن لم يستطيعوا ذلك فإنهم يحاولون أن
يحققوا خيانة المجتمع للداعية على يد بعض المجرمين الذين يسيرون في ركب
الأعداء على مرأى العيون في صورة رجال مرفوعين على منابر الزعامة وكراسي
الحكم، رجال وضعوا في أوطانهم مواضع (الأبطال) ليقوموا بدورهم المرسوم
حين تفشل خطط الأعداء في تحطيم الأفكار الطيبة، فيقوم هؤلاء بأمر آخر وهو
محاولة تحطيم أصحاب الأفكار عن طريق الإرهاب والتعذيب لهم ولأفراد أسرهم
أطفالاً ونساءً!
هذا هو مكر الأعداء فما هو السبيل لدفعه والنصر عليهم؟
بادئ ذي بدء نقول إن الأعداء يحاولون أن يصوروا لنا الصراع معهم وكأننا
ذرّة تريد أن تحطم جبلاً! ، وأنه من العبث محاولة دفعهم فضلاً عن التغلب عليهم.
ولكن الأمر ليس بيد الأعداء، إنه بيد مَن يقدر الأشياء فتسير الذرة ويسير
الجبل حسب تقديره، وقوة الأعداء مهما بلغت وكيدهم مهما قوي فهو ضعيف لأنه
كيد شيطان [إنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً] [النساء: 76] .
ودفْعه منوط بما في أنفسنا نحن، قال - تعالى -: [وإِن تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا
يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] [آل عمران: 120] ، وسُنة الله في التغيير [إِنَّ اللَّهَ لا
يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] [الرعد: 11] فسنة الله التي لا تتخلف:
غيِّرْ نفسك تغير واقعك.. فلنغير في أنفسنا ما يستغله أعداؤنا لخدمة أهدافهم من
حيث نشعر أو لا نشعر! .
فإذا كان الأعداء يستغلون فينا ميلنا للسهولة فيصوغوا الفكرة في مجموعة
شعارات تسد منافذ إدراكنا وتضللنا عن حقيقة الصراع فلنتعلم أنه ليس المهم
الصيحة التي يوجهها الضارب مادامت الضربة توجَّه إلى العدو الحقيقي وفي الاتجاه
الصحيح، كما يجب أن نتخلص مما في نفوسنا من ميل للنظر إلى الأشياء على أنها
(سهلة) والذي يقودنا في كثير من الأحيان إلى نشاط أعمى!
وإذا كان الأعداء يحاولون تحطيم الفكرة الطيبة عن طريق تشويه صاحبها أو
إثارة الشبهات حولها، فلنتعلم أن نحكم على الأفكار من خلال ما فيها من برهان
بعيداً عن منطق الغوغاء!
وفي مقابل محاولة الأعداء (استبدال) بفكرة أقل ضرراً على مصالحهم
بالفكرة الفعالة؛ لابد من الوضوح في فكر الدعوة وأهدافها ليسهل على الأفراد
التمييز بين الغث والثمين، وفي مقابل إرهاب الأعداء لابد أن نؤمن بحتمية المحنة
والابتلاء ولنعلم أننا لسنا أول الممتحنين ولن نكون آخرهم وإنما هم مواكب [فَمِنْهُم
مَّن قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً] [الأحزاب: 23] .
ولنعلم أنه بقدر ما نربي أنفسنا بطريقة جيدة، بقدر ما نستطيع أن نصمد لكيد
الجاهلية، ونجاحنا في الصمود لذلك الكيد هو نقطة التحول في خط سير الدعوة
نحو هدفها المنشود.
وأخيراً فأفكار هذا المقال وليدة النظر إلى ما يجري في الواقع.. واقع
الصراع مع الأعداء حاولنا فيه النصح لجميع إخواننا لنحاول جميعا - نحن وهم -
إزالة الجهالة بسبيل المجرمين والتي كانت في كثير من الأحيان سبباً في تخلفنا
وهزيمتنا. وفقنا الله وإياكم إلى ما يحب ويرضى.