دراسات
د. مأمون فريز جرار
إن مما ينبغى أن يُلفت إليه النظر ويوجه إليه الاهتمام ذلك الباب الذي نجده
في كثير من كتب الحديث النبوي تحت عنوان (كتاب الفتن) أو (الملاحم وأشراط
الساعة) ، فإن فيه أحاديث بين فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يكون من الفتن التى تقع بين المسلمين، أو الأحداث التى ستكون بينهم وبين غيرهم من الأمم والملل، ونجد في بعضها تصريحاً بيّناً وفي بعضها الآخر رموزاً وإشارات موحية.
إن علينا أن نسأل أنفسنا: لِمَ حدَّث النبى -صلى الله عليه وسلم- بتلك
الأحاديث؟ ولم كان منه ذلك الاهتمام الشديد بالفتن وأخبارها حتى كان الصحابة
يُصابون بشيء من الذعر لكثرة حديثه عنها؟ !
يستيقظ - عليه الصلاة والسلام - مرة من نومه فتسمعه زوجه السيدة زينب
بنت جحش - رضي الله عنها - يقول: «لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد
اقترب؛ فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه (وعقد سفيان - أحد رواة
الحديث - بيده عشرة) وتقول له السيدة زينب: يا رسول الله: أنهلك وفينا
الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث» [1] .
ويشرف على أُطُم من آطام المدينة فيقول لأصحابه: «هل ترون ما أرى؟
إنى لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر» [2] . ويحدثهم النبى -صلى
الله عليه وسلم- عن فتن بعيدة عن عصرهم ويهتم بها أي اهتمام، ويستعيذ منها
ويعلّم المسلمين أن يفعلوا ذلك، ومنها فتنة الدجال [3] ، وإن من الثابت في صحاح
الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قص على أصحابه ما سيكون من أحداث
الدنيا وفتنتها حتى يوم القيامة، عمّ بذلك الصحابة كلهم، وخص بعضهم بما لم يقله
على الملأ. ولنستمع إلى أبي زيد عمرو بن أخطب يحدثنا بهذا الحديث العجيب،
قال: (صلى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الفجر وصعد المنبر، فخطبنا
حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلى، ثم صعد المنبر فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبر بما كان وما
هو كائن، فأعلمنا أحفظنا) [4] .
ولعل حذيفة - رضي الله عنه - يشير إلى هذه الخطبة في قوله: (لقد خطبنا
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطبة ما ترك فيها شيئاً إلى قيام الساعة إلا ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيت، فأعرف ما
يعرف، الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه) [5] .
ولسائل أن يسأل أين هذه الخطبة؟ وهل رُويت بنصها في كتب السنة؟
والذي أراه أنها رويت مقطعة في أحاديث الفتن، وفي الحديثين السابقين ما يشير
إلى نسيان كثير من الصحابة لها، (فأعلمنا أحفظنا) و (علمه من علمه وجهله من
جهله) ثم حال حذيفة مع بعض الفتن التي يذكر حديث رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- عنها بعد وقوعها!
ويبدو أن حذيفة أعلم الصحابة بالفتن، فهو يقول: (أخبرني رسول -صلى
الله عليه وسلم- بما هو كائن إلى أن تقوم الساعة، فما منه شيء إلا قد سألته، إلا
أنى لم أسأله ما يخرج أهل المدينة من المدينة) [6] ..
ويبدو أن حذيفة كان يتحرج من ذكر كل ما يعلم من أمر الفتن، خشية أن
يكون بعض ما يعلمه مما أسرَّ به النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه دون غيره من
الصحابة، وهذا ما يبدو في قوله التالى: (والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هى
كائنة فيما بيني وبين الساعة، وما بي إلا أن يكون رسول -صلى الله عليه وسلم-
أسر إليَّ ذلك شيئاً لم يحدثه غيري، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال
وهو يحدث مجلساً أنا فيه عن الفتن: فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو
يعد الفتن: «منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئاً، ومنهن فتن كرياح الصيف، منها
صغار ومنها كبار» ، قال حذيفة: فذهب أولئك الرهط كلهم غيري) [7] .
ومن الأمثلة على معرفة حذيفة بتفاصيل الأحداث ما يرويه محمد بن سيرين
عن جندب قال: (جئت يوم الجرعة فإذا رجل جالس، فقلت: ليهرقن اليوم ههنا
دماء، فقال ذاك الرجل: كلا والله، قلت: بلى والله، قال: كلا والله. قلت: بلى
والله، قال: كلا والله، إنه لحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حدثنيه.
قلت: بئس الجليس لي أنت منذ اليوم، تسمعني أخالفك وقد سمعته من رسول الله
- صلى الله عليه وسلم- فلا تنهاني؟ ثم قلت: ما هذا الغضب؟ فأقبلت عليه،
وأسأله، فإذا الرجل حذيفة) [8] .
ومن ذلك ما يرويه حذيفة عن حوار دار بينه وبين عمر عن الفتن، وذلك في
قوله: (كنا جلوساً عند عمر - رضي الله عنه - فقال: أيكم يحفظ قول رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- في الفتنة؟ قلت: أنا كما قاله، قال: إنك عليه (أو عليها)
لجريء. قلت: فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره تكفرها الصلاة والصوم
والصدقة والأمر والنهى. قال: ليس هذا أريد! ولكن الفتنة التى تموج كما يموج
البحر. قال: ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين، إن بينك وبينها باباً مغلقاً.
قال: أيُكسر أم يُفتح؟ قال: يكسر! قال: إذاً لا يُغلق أبداً، قلنا [9] : أكان عمر
يعلم الباب؟ قال: نعم، كما أن دون الغد الليلة. إني حدثته حديثاً ليس بالأغاليط.
فَهِبْنا أن نسأل حذيفة فأمرنا مسروقا فسأله، فقال: الباب عمر) [10] .
وسياق الحديث نص في أن عمر كان يعرف من أمر تلك الفتنة التي سأل
عنها ما كان يعلمه حذيفة.
ويحدث حذيفة أصحابه عن سر تمكنه من أخبار الفتن فيقول: (إن الناس
كانوا يسألون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الخير، وكنت أسأله عن الشر. فأنكر ذلك القوم - أي الذين كان حذيفة يحدثهم - فقال لهم: إني سأخبركم بما
أنكرتم من ذلك: جاء الإسلام حين جاء فجاء أمر ليس كالجاهلية، وكنت قد
أُعطيت في القرآن فهماً، فكان رجال يجيئون فيسألون عن الخير، فكنت أسأل عن
الشر! فقلت: يا رسول الله، أيكون بعد هذا الخير شر كما كان قبله شر؟ فقال:
نعم. قلت: فما العصمة يا رسول الله؟ قال: السيف. قال: قلت: وهل بعد هذا
السيف بقية؟ قال: نعم، تكون إمارة على أقذاء، وهدنة على دَخَن، قال: قلت:
ثم ماذا؟ قال: ثم تنشأ دعاة الضلالة، فإذا كان لله يومئذ في الأرض خليفة جلد
ظهرك وأخذ مالك فالزمْه، وإلا فمت وأنت عاضّ على جِذل شجرة، قال: قلت:
ثم ماذا؟ قال: يخرج الدجال بعد ذلك، معه نهر ونار، من وقع في ناره وجب
أجره، وحُط وزره، ومن وقع في نهره وجب وزره، وحط أجره، قال: قلت:
ثم ماذا؟ قال: ثم ينتج المهر فلا يركب حتى تقوم الساعة) [11] .
وقد جاء بعد نص الحديث أن قتادة - وهو أحد رواته - فسر الشر الذى تكون
العصمة منه بالسيف بالردة التي حدثت في زمن أبى بكر (رضي الله عنه) .
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد حدث أصحابه حديثاً عاماً عن الفتن
التى ستحدث في أزمان تالية - قد يعاصرونها وأكثرها يأتي بعد أن يفارقوا الدنيا -
فقد عهد إلى بعض أصحابه عهوداً خاصة بشأن فتن يمرون بها وتصيبهم! ، يحدثنا
كعب بن عجرة - رضي الله عنه - فيقول: ذكر رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- فتنة فقربها! فمر رجل مقنع على رأسه، فقال رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- (هذا يومئذ على الهدى، فوثبت فأخذت بضبعي عثمان، ثم استقبلت رسول ...
الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: هذا؟ قال: هذا) [12] .
ولعل في هذا الحديث والأحاديث التالية ما يفسر لنا موقف عثمان في الفتنة
التي أودت به! وصبره عليها ونهيه المسلمين عن القتال دونه فيها، وقوله لأبي
هريرة الذي كان معه في بيته يوم حصر فيه: (يا أبا هريرة، إنما تراد نفسي،
فعلامَ نقتل الناس؟ أحتسب بنفسي عن الناس) [13] . وقد روت عائشة - رضي
الله عنها - حديثاً كانت قد نسيته في غمرة الفتنة، وذكرته بعد مقتل عثمان وهو ذو
دلالة على ما نحن فيه: عن عائشة قالت: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ...
«يا عثمان، إن ولاك الله هذا الأمر يوماً فأرادك المنافقون أن تخلع قميصك الذي
قمَّصك الله فلا تخلعْه، فلا تخلعه، فلا تخلعه» ، قال النعمان - راوي الحديث -
فقلت لعائشة: ما منعك أن تُعْلمي الناس بهذا؟ (يعنى أيام الفتنة وحصار الناس
لعثمان) ، قالت: أُنسيته) [14] .
وعنها - رضي الله عنها - قالت: (قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في مرضه: وددت أن عندي بعض أصحابي. قلنا: ألا ندعو لك أبا بكر؟ فسكت. قلنا: ألا ندعو لك عمر؟ فسكت، قلنا: ألا ندعو لك عثمان. قال: نعم. فجاء، فخلا به، فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يكلمه ووجْه عثمان يتغير. قال
قيس (أحد رواة الحديث) : فحدثني أبو سهلة - مولى عثمان -أن عثمان بن عفان
قال يوم الدار: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عهد إليَّ عهداً فأنا صائر إليه. وقال علي في حديثه: وأنا صابر عليه. قال قيس: فكانوا يرونه ذلك
اليوم) [15] .
وقد جاء في حديث أبي موسى الأشعري - الذي قص فيه خبر النبي -صلى
الله عليه وسلم- مع أبي بكر وعمر وعثمان في بئر أريس، وقد جاء في شأن
عثمان قوله لأبي موسى الأشعري: «ائذن له، وبشره بالجنة مع بلوى
تصيبه» [16] .
ومن العهود النبوية الخاصة إلى بعض أصحابه ما يدل عليه هذا الحديث: (عن عديسة بنت أهبان قالت: لما جاء علي بن أبي طالب ههنا- البصرة- دخل
على أبي، فقال: يا أبا مسلم، ألا تعينني على هؤلاء القوم؟ قال: بلى! قال:
فدعا جارية فقال: يا جارية أخرجي سيفي، قال: فأخرجته، فسلَّ منه قدر شبر،
فإذا هو خشب! ! فقال: إن خليلي وابن عمك -صلى الله عليه وسلم- عهد إليَّ إذا
كانت الفتنة بين المسلمين فاتخذ سيفاً من خشب، فإن شئت خرجت معك! قال: لا
حاجة لي فيك ولا في سيفك) [17] .
وهذا أبو ذر يورد لنا حواراً دار بينه وبين النبي -صلى الله عليه وسلم-
تضمن وصايا نبوية له في الفتن وموقفه منها:
(عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه
وسلم-: كيف أنت يا أبا ذر وموتاً يصيب الناس حتى يقوَّم البيت بالوصيف (يعني
القبر) ؟ ! . قلت: ما خار لي الله ورسوله (أو قال: الله ورسوله أعلم) قال:
تصبر. قال: كيف أنت وجوعاً يصيب الناس حتى تأتي مسجدك فلا تستطيع أن
ترجع إلى فراشك، ولا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك؟ ! قال: قلت:
الله ورسوله أعلم (أو ما خار لي الله ورسوله) . قال: عليك بالعفة. ثم قال: كيف
أنت وقتلاً يصيب الناس حتى تغرق حجارة الزيت بالدم؟ ! قلت: ما خار لي الله
ورسوله. قال: الحقْ بمن أنت منه. قال: قلت: يا رسول الله أفلا آخذ سيفي
فأضرب مع مَن فعل ذلك؟ قال: شاركت القوم إذاً، ولكن ادخل بيتك، قلت: يا
رسول الله فإن دُخل بيتي؟ قال: إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألقِ طرف
ردائك على وجهك فيبوء بإثمه وإثمك فيكون من أصحاب النار) [18] .
ومن الوصايا الخاصة هذه الوصية التي تلقاها محمد بن مسلمة - رضي الله
عنه - من النبي - صلى الله عليه وسلم-: (عن أبي بردة قال: دخلت على محمد ...
بن مسلمة فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-قال: «إنها ستكون فتنة
وفرقة واختلاف، فإذا كان كذلك فأتِ بسيفك أُحُداً فاضربه حتى ينقطع، ثم اجلس
في بيتك حتى تأتيك يدٌ خاطئة، أو منيّة قاضية) [19] .
ونجد إلى جانب هذه الوصايا الخاصة الموجهة إلى راوي الحديث وصايا عامة
مضمنة في الأحاديث التي تنبئ عن الفتن وأخبارها، وتدل المسلم الذي يعاصرها
على ما ينبغي أن يفعله ليتقي شرها. فها هو النبي -صلى الله عليه وسلم- يوجه
الخطاب إلى مَن هم جلوس بين يديه فيقول:» كيف بكم وبزمان يوشك أن يأتي
يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأماناتهم
فاختلفوا وكانوا هكذا (وشبَّك بين أصابعه) ؟ قالوا: كيف بنا يا رسول الله إذا كان
ذلك؟ قال: تأخذون بما تعرفون، وتدَعون ما تنكرون، وتُقبلون على خاصتكم،
وتذرون أمر عوامكم) [20] .
* يتبع *