تاريخ
ابن سبأ في كتابات المعاصرين
د. محمد آمحزون
إذا كانت شخصية ابن سبأ حقيقة تاريخية لا لبس فيها في المصادر السنية
والشيعية، المتقدمة والمتأخرة على السواء، فهي كذلك أيضاً عند غالبية
المستشرقين أمثال: يوليوس فلهاوزن [1] ، وفان فولتن [2] ، وليفي ديلافيدا [3] ،
وجولد تسيهر [4] ، ورينولد نكلسن [5] ، وداويت رونلدسن [6] ... على حين
يبقى ابن سبأ محل شك أو مجرد خرافة عند فئة قليلة من المستشرقين أمثال:
كيتاني [7] ، وبرنارد لويس [8] ، وفريد لندر المتأرجح [9] .
كما أن شخصية ابن سبأ تبقى محل اتفاق عند المحدثين من أهل السنة ما عدا
فئة قليلة ممن تأثروا بمنهج الاستشراق [10] ، أو ممن حجبهم الغموض الذي أثاره
غيرهم حول شخصية ابن سبأ، فلازموا الإنكار [11] ، وفي أحسن حال شكوا في
أمره [12] ، أو تذبذبوا بين الإنكار تارة، والإقرار بوجوده تارة أخرى [13] .
وبالنسبة للشيعة المعاصرين، فأغلب ما كتبوه عن ابن سبأ، إنما هو إنكار
لوجوده، فهو عند بعضهم أقرب إلى الوهم منه إلى الوجود [14] ، وعند البعض
الآخر أقرب إلى الخيال والأسطورة منه إلى الواقع [15] .
أما المستشرقون فقد كان هدفهم من ذلك التشكيك أو الإنكار هو ادعاء أن الفتن
إنما هي من عمل الصحابة أنفسهم، وأن نسبتها إلى اليهود أو الزنادقة هو نوع من
الدفاع عن الصحابة، لجأ إليها الإخباريون والمؤرخون المسلمون، ليعلقوا أخطاء
هؤلاء الصحابة على عناصر أخرى.
على أن إنكار بعضهم لشخصية عبد الله بن سبأ إنما يرجع إلى رغبتهم في
الانتهاء إلى النتيجة التالية: لا حاجة لمخرب يمشي بين الصحابة، فقد كانت
نوازع الطمع وحب الدنيا والسلطة مستحوذة عليهم، فراحوا يقاتلون بعضهم بعضاً
عن قصد وتصميم، يقول أحدهم بأن ابن سبأ ليس إلا شيئاً في نفس سيف أراد أن
يبعد به شبح الفتنة عن الصحابة، وأنها إنما أتت من يهودي تستر بالإسلام [16] .
والقصد من ذلك الاساءة إلى الإسلام وأهله، وإلقاء في روع الناس أن الإسلام
إذا عجز في تقويم أخلاق الصحابة وسلوكهم وإصلاح جماعتهم بعد أن فارقهم
الرسول - صلى الله عليه وسلم - بمدة وجيزة، فهو أعجز أن يكون منهجاً
للإصلاح في هذا العصر.
وجرياً وراء منهج المستشرقين في التشكيك في شخصية ابن سبأ، والتهوين
من خطر العناصر المخربة في الإسلام، انساق بعض الباحثين العرب إلى التهوين
من شأن ابن سبأ، أو حتى إنكار شخصيته واعتبارها شخصية أسطورية.
يقول أحد هؤلاء المشككين: «أراد خصوم الشيعة - يقصد أهل السنة -
أن يدخلوا في أصول هذا المذهب عنصراً يهودياً إمعاناً في الكيد له والنيل
منهم» [17] .
ثم يتساءل في خبث: «أكان لابن سبأ أن يجد مجالاً لبث أفكاره بين من هم
أكثر منه علماً ودراية بأحكام الإسلام» [18] .
هذا وقد بنى شكه في هذه القضية على سببين باطلين هما:
أولاً: زعمه أن هذه القصة قد اختلقها أهل السنة للتشنيع على الشيعة، وقد
كان عليه قبل أن يلقي بظلال الشك جزافاً، وذلك دأبه، أن يتأكد على الأقل من أن
هذه القصة انفردت بها مصادر أهل السنة، وأن مصادر الشيعة قد خلت منها، وهو
أمر لم يكلف نفسه عناء البحث فيه، لأن منهجه الذي سار عليه في كتاباته هو
الشك وإساءة الظن بالآخرين والقذف بالاتهام دون تثبت.
والزعم بأن أهل السنة اختلقوا هذه القصة باطل، لأن مصادر الشيعة هي
الأخرى أثبتتها كما سلف ذكره. فالشيعة إذاً متفقون مع أهل السنة على أن عبد الله
بن سبأ هو الذي أجج نيران الفتنة على عثمان -رضي الله عنه-، وهو الذي أظهر
العداء لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي أظهر الغلو في
علي -رضي الله عنه- وقال بالنص على إمامته، إلى غير ذلك من معتقداته الباطلة.
وبهذا يسقط اعتراض طه حسين على القصة بزعمه أنها من مفتريات أهل
السنة، وحاشاهم ذلك، إذ يتعذر اتفاق جميع مصادرهم على الكذب، بل كان غالبية
أصحابها من العلماء الثقات المشهود لهم بتحري الصدق فيما يكتبونه وينقلونه.
ثانياً: أما اعتراضه الثاني، وهو إكباره للصحابة بأن يستطيع مثل ابن سبأ
أن يفعل ما فعل، فليس هذا إكباراً وإنما هو رغبة لإظهارهم بأنهم هم الذين أثاروا
الفتنة ضد عثمان، فهو يعلم أن ابن سبأ بث أفكاره بين دهماء الناس وعامتهم،
وليس بين الصحابة، وهؤلاء الدهماء كان لهم دور مؤسف في قتل أمير المؤمنين
عثمان -رضي الله عنه-، وفي معركة الجمل، وما أعقبهما من نكبات ومصائب.
أما الشيعة فيرجع سبب إنكارهم لوجود ابن سبأ فيما يبدو إلى عقيدته التي بثها
وتسربت إلى فرق الشيعة، وهي عقيدة تتنافى مع أصول الإسلام، وتضع القوم
موضع الاتهام والشبهة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى لما للعداء التاريخي في
نفوس الشيعة نحو الصحابة، ورغبة لإظهارهم بأنهم هم الذين أثاروا الفتنة بينهم.
على أن من طعن من الشيعة في وجود شخصية ابن سبأ فقد طعن بالتالي في
كتبهم التي نقلت لعنات الأئمة المعصومين عندهم في هذا اليهودي الماكر، وكيف
يتصور أن تخرج اللعنات من المعصوم على مجهول! مع أنه لا يجوز في معتقد
الشيعة تكذيب المعصوم! !
وفي الختام يتأكد بعد استقراء المصادر سواء القديمة والمتأخرة، عند السنة
والشيعة، أن وجود عبد الله بن سبأ كان وجوداً حقيقياً تؤكده الروايات التاريخية،
وتفيض فيه كتب العقائد، وذكرته كتب الحديث، والرجال، والأنساب والطبقات،
والأدب واللغة، وسار على هذا النهج كثير من المحققين والباحثين والمحدثين [19] .
ويبدو أن أول من شكك في وجود ابن سبأ بعض المستشرقين، ثم دعم هذا
الطرح الغالبية من الشيعة المحدثين، بل وأنكر بعضهم وجوده البتة، وبرز من بين
الباحثين العرب المعاصرين من أعجب بآراء المستشرقين، ومن تأثر بكتابات
الشيعة المحدثين، ولكن هؤلاء جميعاً ليس لهم ما يدعمون به شكهم وإنكارهم إلا
الشك ذاته، والاستناد إلى مجرد الظنون والفرضيات.