من أرشيف البيان
تاريخ الأمم والملوك
لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري
224 - 310
محب الدين الخطيب -رحمه الله-
مفارقات:
من عجيب المفارقات في تاريخنا وتواريخ الأمم الأخرى، وفي موقفنا من
تاريخنا ومواقف الأمم الأخرى من تاريخها، أن نكون أغناهن جميعاً في كل ما
يبني به تاريخ الأمة من أنباء ونصوص ومراجع وقرائن وإشارات وتحقيقات، ثم
نبقى أفقرهن وأقلهن انتفاعاً بهذه الثروة في إقامة معالم تاريخنا على أساسها، بينما
الآخرون قد أحدثوا - حتى من الأوهام - مكتبات جديدة لأجيالهم وجماهير قرائهم،
حافلة بالطلى الشهي من صفحات ماضيهم، فوثقوا أواصر خلفهم بسلفهم، ويسروا
لهم القدوة الحسنة بعظمة العظماء من نوابغهم، بعثوا لهم من ذلك الماضي صوراً
حية ترتفع الرءوس بأمجادها، وتمتلئ القلوب بإجلالها واحترامها، وتطمئن العقول
إلى تعليل تصرفاتهم والاعتبار بها ومواصلة السير نحو أهدافها.
مواطن ضعف:
ومواطن الضعف - التي أدت ببعض معاصرينا من حملة أمانات التاريخ
العربي والإسلامي إلى أن يكون انتفاعهم بهذه (التركة) ضئيلاً - لا يكاد يأتي ...
عليها الحصر - ومما يتبادر إلى الذهن منها الآن أمران:
أولهما: أن الذين تثقفوا منا بثقافة أجنبية عنا قد غلب عليهم الوهم بأنهم
(غرباء) عن هذا الماضي، وأن موقفهم من رجاله كموقف وكلاء النيابة من المتهمين. بل لقد أوغل بعضهم في الحرص على الظهور أمام الأغيار بمظهر المتجرد عن كل آصرة له بماضي العروبة والإسلام، لئلا يتهم في زعمه بالعصبية لهما، فوضع نفسه في موضع التهمة بالتحامل عليهما، جرياً وراء بعض المستشرقين في ارتيابهم حيث تحسن الطمأنينة، وفي ميلهم مع الهوى عندما يدعوهم الحق إلى التثبت، وفي إنشائهم الحكم وارتياحهم إليه قبل أن تكون في أيديهم أشباء الدلائل عليه. ولو أن إخواننا هؤلاء نشأوا على الإيمان بأنهم هم أصحاب هذه (التركة) ، وبأن هذا الماضي ماضيهم، وأن جيلنا حلقة في سلسلة هذا الماضي، وأن أحداثه ثروة لنا في القدوة والاعتبار، لنظروا إليه بعين الأم إلى ابنها، إن لم ينظروا إليه بعين الابن إلى أمه، ولا يكون ذلك إلا بتبني هذا التاريخ، والحرمة له، وبث الحياة في أمجاده، والحرص على استجلاء جماله، وإبراز فضائله، وتحري مواطن العظة والاعتبار في أخطائه، وحسن التعليل لذلك بالرفق والإنصاف وكمال التقدير. على أنه إذا كان هذا حال أهل الصبر منا على البحث والدرس، فما بالك بالآخرين الذين قد تقع أنظار الواحد منهم على بحث فج لمستشرق ناشئ أو منسي، فينتحل ذلك البحث من غير تعب، ويزعمه لقرائنا مبتكراً من عنده، وينقله لنا محرف الأعلام، متضارب الأحكام، مزدوج العي،ملتهب الحماسة في التحامل حتى على الفضائل عندما ينظر إليها - بعينه أو بعين من ترجم عنه - من وراء منظار أسود.
ذلك أحد مواطن الضعف في دراستنا لتاريخ العروبة والإسلام، أما الموطن
الآخر فهو ما لاحظته على بعض المعاصرين لنا من اشتباه الأدلة التاريخية عليهم،
وحيرتهم بين جيدها وأجودها، بل فيهم من لا يميز بين الجيد منها والردىء، مع
أن ذلك كان في متناول يده لو سبق له معرفة موازين رواتنا في النقد، أو وقف
على مناهجهم في التأليف ومصطلحاتهم في الرواية، ومراميهم في الاستشهاد.
وقد اخترت اليوم من هذه المراجع كتاب (تاريخ الأمم والملوك) للإمام أبي
جعفر محمد بن جرير الطبري (224 - 310) لأتحدث عنه إلى إخواني المشتغلين
بالتاريخ، ممن يحاولون الانتفاع به في الاستدلال والنقل، لأني رأيت منهم من
يظن أن إيراد الطبري لخبر من الأخبار كاف لتحميل هذا الإمام مسئولية الخبر الذي
أورده، واعتباره هو المصدر لهذا الخبر، وأن الأخبار التي يوردها سواء كلها في
ميزان الصحة عنده، وأن عزوهم الخبر إلى الطبري ودلالتهم على موضعه من
تاريخه تتم بهما مهمتهم من الاستدلال، وتبرأ بذلك ذمتهم من عهدة هذا الخبر،
ويبقى الطبري هو المتحمل لمسئولية ما يترتب على ذلك في الحكم على أحداث
التاريخ وعلى أقدار رجاله وتصرفاتهم.
إن ظنهم هذا لا يغني من الحق شيئاً، وإن الطبري ليس هو صاحب الأخبار
التي يوردها بل لها أصحاب آخرون أبرأ هو ذمته بتسميتهم، وهؤلاء متفاوتون في
الأقدار، وأخبارهم ليست سواء في قيمها العلمية، ولايتم اعتبار الطبري مرجعاً في
التاريخ إلا بإكمال المهمة التي بدأ بها، وهي تقدير أخباره بأقدار أصحابها، ففيها ما
يعد من سلسلة الذهب، وفيها مالا تزيد قيمته على قيمة الخزف، ولكل ذلك نقاده
وصيارفته وتجاره، وهم يعرفون أقدار هذه الأخبار عند التعريف بأقدار أهلها،
وقديماً قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها.
أنَّى لك هذا؟
إن كل خبر في تاريخ الطبري، بل كل نص يتناقله أهل العلم في أجيال
الإسلام، له عند أهله قيمه رفيعة أو وضيعة، على قدر شرفه أو خسته بالرواة
الذين ينتسب إليهم ذلك الخبر أو ذلك النص. فشرف الخبر في التراث الإسلامي
تبع لصدق راويه ومنزلته من الأمانة والعدالة والتثبت، لذلك امتازت كتب سلفنا
الأول بتسمية الرجل المسئول عن أي حديث نبوي يوردونه فيها، وبيان المصدر
الذي جاءوا منه بأي خبر تحدثوا به إلى الناس. ولو لم يسموا الرجل المسئول عن
الحديث النبوي عند إيراده، ولو لم يبينوا المصدر الذي حصلوا منه على أي خبر
يودون ذيوعه بين الناس، لطالبهم بذلك علماء الثقافة الإسلامية بأشد من مطالبة
المحاكم من يدعي ملكية العقار أو الحقل بما يثبت ملكيته له ومن أين صار ذلك إليه؟
وإذا كان مبدأ (أنى لك هذا) مما سنه أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في
مشروعية امتلاك الأموال، فإن أبناء الجيل الذي منه عمر بن الخطاب هم الذين
سنوا للناس بعدهم وجوب بيان مصادر العلم، كما سنوا لهم وجوب بيان مصادر
المال، والعلم أثمن عندهم من المال وأشرف، وأنفع منه وأبقى.
نحن نعتبر تاريخ الطبري الآن من أقدم مصادرنا، وكان تاريخ الطبري في
النصف الثاني من القرن الثالث (أي قبل أحد عشر قرناً) يعد من مصادر التاريخ
الإسلامي الحديثة بالنسبة إلى المصنفات التي دونت قبله بثلاثة بطون، بل بأربعة.
ولعل أقدمها مغازي مؤرخ المدينة موسى بن عقبة الأسدي المتوفى سنة 140 هـ،
وهو الذي يقول فيه الإمام مالك: (عليكم بمغازي ابن عقبة فإنه ثقة، وهي أصح
المغازي) وابن عقبة من تلاميذ عروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص الليثي،
ومن طبقة تلاميذه العراقيين سيف بن عمرالتميمي الكوفي المتوفى بعد سنة 170
هـ، وله في سنن الترمذي حديث واحد، والطبري يروى عنه بواسطتين، أي عن
شيوخه وهم عن شيوخهم الذين كانوا تلاميذ لسيف. ومن طبقة تلاميذ موسى ابن
عقبة مؤرخ الشام أبو إسحاق الفزاري الحافظ المتوفى سنة 186 هـ، وهو حفيد
أسماء بن خارجة الفزاري وكان له كتاب في التاريخ أثنى عليه شيخ الإسلام
ابن تيمية في (مقدمة أصول التفسير) [1] ، بعد أن قال: (إن أعلم الناس
بالمغازي أهل المدينة، ثم أهل الشام، ثم أهل العراق، فأهل المدينة أعلم بها
لأنها كانت عندهم، وأهل الشام كانوا أهل غزو وجهاد فكان لهم من العلم بالجهاد والسير ما ليس لغيرهم. ولهذا أعظمَ الناسُ كتاب أبي إسحاق الفزاري الذي صنفه في ذلك، وجعلوا الأوزاعي أعلم بهذا الباب من غيره من علماء الأمصار) . ...
ويأتي بعد تلاميذ موسى بن عقبة طبقة يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن
العاص الأموي المتوفى سنة 194 هـ، ومن مؤرخي الشام الوليد بن مسلم أبو
العناس الدمشقي مولى الأمويين المتوفى سنة 195 هـ، ومحمد بن عمر الواقدي
المدني قاضي العراق المتوفى سنة 207 هـ، ثم كاتبه المؤرخ الحافظ الثقة محمد
بن سعد بن منيع البصري (168 - 230) . ومن هذا الجو العلمي استمد أبو جعفر
الطبري هديته الكبرى إلى الأمم الإسلامية بما سجله وخلده من جهود شيوخه وشيوخ
شيوخه ومن سبقهم إلى زمن التابعين والصحابة، فلم يترك مهماً من أخبار سلف
الأمة مما أثر عن الأئمة الذين سمينا بعضهم إلا وقد دون طرفاً منه، ناسباً كل خبر
إلى صاحبه وإلى من يرويه عنهم صاحب ذلك الخبر من شيوخه وأسلافهم.
الأخبار الضعيفة عند الطبري:
لم يقتصر الطبري على المصادر التي أشرت إلى بعضها، بل أراد أن يقف
قارئه على مختلف وجهات النظر، فأخذ عن مصادر أخرى قد لا يثق هو بأكثرها،
إلا أنها تفيد عند معارضتها بالأخبار القوية، وقد تكمل بعض ما فيها من نقص،
كما صنع بنقله كثيراً من أخبار أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي الذي قال فيه
الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال: (اخباري تالف لا يوثق به، تركه أبو حاتم
وغيره) وقال ابن معين: ليس بثقة. وقال مرة: ليس بشيء. وقال ابن عدي: شيعي محترق، صاحب أخبارهم. مات قبل السبعين ومائة. فقد نقل الطبري ... من أخباره في مئات المواضع، ولو أن الذين ينقلون عن الطبري ويقفون عنده، استقوا أخبار من لوط بن يحيى هذا واكتفوا بعزوها إلى الطبري لظلموا الطبري بذلك، وهو لاذنب له بعد أن بين لقارئه مصادر أخباره، وعليهم أن يعرفوا نزعات أصحاب هذه المصادر ويزنوها بالموازين العادلة اللائقة بهم وبها.
إن مثل الطبري ومن في طبقته من العلماء الثقات المتثبتين - في إيرادهم
الأخبار الضعيفة- كمثل رجال النيابة الآن إذا أرادوا أن يبحثوا في قضية فإنهم
يجمعون كل ما تصل إليه أيديهم من الأدلة والشواهد المتصلة بها، مع علمهم بتفاهة
بعضها أو ضعفه، اعتماداً منهم على أن كل شيء سيقدر بقدره. وهكذا الطبري
وكبار حملة الأخبار من سلفنا كانوا لا يفرطون في خبر مهما علموا من ضعف ناقله
خشية أن يفوتهم بإهماله شىء من العلم ولو من بعض النواحي.
إلا أنهم يوردون كل خبر معزواً إلى راويه ليعرف القارئ قوة الخبر من كون
رواته ثقات أو ضعفه من كون رواته لا يوثق بهم، وبذلك يرون أنهم أدوا الأمانة،
ووضعوا بين أيدي القراء كل ما وصلت إليه أيديهم، قال الحافظ ابن حجر في
ترجمة الطبراني من لسان الميزان:
(إن الحفاظ الأقدمين يعتمدون في روايتهم الأحاديث الموضوعة مع سكوتهم
عنها على ذكرهم الأسانيد، لاعتقادهم أنهم متى أوردوا الحديث بإسناده فقد برئوا
من عهدته، وأسندوا أمره إلى النظر في إسناده) .
ومن فوائد إيراد الحادث الواحد بأخبار من طرق شتى وإن كانت ضعيفة قول
شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمة تفسير القرآن (ص 30 - 31) : (إن تعدد الطرق
مع عدم التشاعر أو الاتفاق في العادة يوجب العلم بمضمون المنقول (أي بالقدر
المشترك في أصل الخبر) لكن هذا ينتفع به كثيراً في علم أحوال الناقلين (أي
نزعاتهم والجهة التي يحتمل أن يتعصب لها بعضهم) وفي مثل هذا ينتفع برواية
المجهول، والسيئ الحفظ، وبالحديث المرسل ونحو ذلك، ولهذا كان أهل العلم
يكتبون مثل هذه الأحاديث ويقولون: إنه يصلح للشواهد والاعتبار ما لا يصلح
لغيره. قال أحمد: (قد أكتب حديث الرجل لأعتبره) .
ومن الإنصاف أن نشير إلى أن اتساع صدور أئمة السنة - من أمثال أبي
جعفر الطبري - لإيراد أخبار المخالفين من الشيعة وغيرهم. دليل على حريتهم،
وأمانتهم، ورغبتهم في تمكين قرائهم من أن يطلعوا على كل ما في الباب، واثقين
من أن القارئ الحصيف لا يفوته أن يعلم أن مثل أبي مخنف موضع تهمة - هو
ورواته - فيما يتصل بكل ما هم متعصبون له، لأن التعصب يبعد صاحبه عن
الحق. أما سعة الصدر في إيراد أخبار المخالفين فهي دليل على عكس ذلك، وعلى
القارئ الحصيف أن يأخذ ما صفا ويدع ما كدر، وأن يستخلص الحق عند ما يكون
موزعاً أو معقداً.
الانتفاع بأخبار الطبري:
إنما ينتفع بأخبار الطبري من يرجع إلى تراجم رواته في كتب الجرح
والتعديل. فتراجم شيوخه مباشرة وشيوخهم توجد في الأكثر في مثل تذكرة الحفاظ
للذهبي. وتراجم الرواة الذين كانوا إلى أواخر المائة الثانية توجد في خلاصة
تهذيب الكمال للصفي الخزرجي وتقريب التهذيب وتهذيب التهذيب للحافظ ابن
حجر. والذين تناولهم الجرح من الضعفاء يترجم لهم الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال والحافظ ابن حجر في لسان الميزان. وفي طبقات ابن سعد وتاريخ بغداد للخطيب وتاريخ دمشق لابن عساكر وتاريخ الإسلام للذهبي والبداية والنهاية لابن كثير. وإن كتب مصطلح الحديث تبين الصفات اللازمة للراوي ومتى يجوز الأخذ برواية المخالف. ولا نعرف أمة عني مؤرخوها بتمحيص الأخبار وبيان درجاتها وشروط الانتفاع بها كما عني بذلك علماء المسلمين. وإن العلم بذلك من لوازم الاشتغال بالتاريخ الإسلامي، أما الذين يحتطبون الأخبار بأهوائهم. ولا يتعرفون إلى رواتها، ويكتفون بأن يشيروا في ذلك الخبر إلى أن الطبري رواه في صفحة كذا من جزئه الفلاني ويظنون أن مهمتهم انتهت بذلك، فهؤلاء من أبعد الناس عن الانتفاع بما حفلت به كتب التاريخ الإسلامي من ألوف الأخبار، ولو أنهم تمكنوا من علم مصطلح الحديث، وأنسوا بكتب الجرح والتعديل، واهتموا برواة كل خبر كاهتمامهم بذلك الخبر لاستطاعوا أن يعيشوا في جو التاريخ الإسلامي، ولتمكنوا من التمييز بين غث الأخبار وسمينها، ولعرفوا للأخبار أقدارها بوقوفهم على أقدار أصحابها.
وبعد فإن تركة سلف هذه الأمة - في كل ضرب من ضروب المعرفة - من
أنفس ما ورثت عن أسلافها، وقد كانت لعلمائنا الأقدمين مشاركة في علوم كثيرة،
فجاءت مؤلفاتهم مرتبطاً بعضها ببعض ومكملاً بعضها لبعض. والذي ألفوه في
التاريخ واعتمدوا فيه على الرواية، مبالغة منهم في أداء الأمانة كاملة وافية، لا
يجوز لمن ينقله عنهم أن يقصر في عرض تلك الأخبار على قواعد علم الرواية
وعلى المعاجم المؤلفة في تراجم الرواة، وإن لم يفعل أخطأ الطريق، وكان عمله
خارجاً عن مناهج العلماء.
عن مجلة الأزهر المجلد 24