حسين الدليمي
أريد أن أتحدث عن بعض الظواهر التي طرأت على المجتمع العراقي منذ أن وطئ المحتلّون ثرى بلاده بلاد الرافدين؛ حديثاً واقعياً سيكون عن ظاهرة (الاختطاف) و (هجرة الأساتذة) ، مع التعريج على بعض التداعيات الأخرى التي أفرزها الواقع؛ كـ (تسييس الجامعات) و (ظاهرة السلب والنهب) وغيرها، مستمداً من الله يد العون والتوفيق.
الاختطافُ..الداء الذي أنهك جامعات العراق
أستاذ وطالب..ومصيرٌ مجهولٌ.
3 ظاهرة غريبة تحلُّ في مجتمع العراق!
لم يكتفِ الواقع العراقي المأساوي الذي يعيشه الأستاذ والطالب في التدهور الأمني المتصاعد بعمليات الغدر والقتل والاعتقال، بل تجاوز ذلك إلى الحالة التي دائماً ما يصاحبها (الاغتيال) ، ألا وهي ظاهرة (الاختطاف) . فمن خلف أسوجة الحرم الجامعي، ومن خلف الأسلاك الشائكة تلوح نظرات الخوف والحزن على وجوه الأستاذ والطالب على حدٍّ سواء وهم لا يعلمون تلك المفاجئات التي قد يلقون من خلالها مأساتهم، فيتم خطفهم من جامعاتهم أو من طريق ذهابهم إليها أو إيابهم منها. هذا هو الواقع الذي يعيشه أبناء الرافدين، وهو ما أصبح جزءاً من الممارسات اليومية التي يرونها عياناً ويعيشونها جزءاً من واقعهم الذي فُرض عليهم.
3 أستاذ عراقي: السلعة الرخيصة لتصفية الحساب:
لعلَّ من نافلة القول أنَّ الأستاذ الجامعي والأكاديمي حاله حال أي مواطن عراقي في تلقِّي المآسي كل يوم؛ من قتل أو خطف أو اعتقال، ولكن فرصة التهديد أمامه أكبر؛ لأنه ثروة البلد العلمية التي تسعى أطراف كثيرة إلى إفقاره وإفراغه منها.
وتشير تقارير عديدة إلى وجود مئات من العلماء الذين تمَّ اختطافهم من بيوتهم أو جامعاتهم، وغالباً ما يكون مصيرهم القتل بعد أيام، وقد يبتزون فتؤخذ أموال طائلة للإفراج عنهم.
وقد حدث أن تمَّ اختطاف بعض أبناء الأستاذ لغرض التأثير عليه من أجل ترك العمل والهجرة خارج العراق، أو بقصد دفع الفدية التي غالباً ما تكون مبالغ لا يمكن تصورها؛ فيضطر الأستاذ إلى مغادرة البلد، أو بيع ما يملك من بيت - إذا كان يملك بيتاً - أو مستلزماتٍ أخرى؛ لغرض تأمين المبلغ الذي يطلق بموجبه سراح ولده أو أحد أفراد عائلته. ولا أريد الإطالة في هذا؛ لأنه واضح للعيان، ولا يخفى على أيِّ متابع للشأن العراقي، ولذلك أودُّ استغلال الفرصة للحديث بشكل أوسع عن ظاهرة اختطاف الطلبة، كما سيأتي في السطور القادمة.
3 طالب يعيش تحت رحمة الأنذال!
لا أريد أن أتحدث طويلاً عن موضوع اختطاف الطلبة في العراق، فهو أمر يكاد يكون ظاهراً أمام أعين الناس، ولكنني في هذه العجالة أودُّ أن أوضِّح بعض النقاط التي تتعلق بموضوع اختطاف الطلبة؛ ليطلع عليها القارئ الكريم، مما هو مثار استغراب وتعجب بخصوص هذه المسألة، ونبين هذه النقاط حسب التالي:
أولاً: اختطاف الطالبات ثم قتلهنَّ:
ظاهرة اختطاف الطالبات أمر له وجود في الشارع العراقي، فليس الطالب وحده هو المهدَّد بالاختطاف في العراق اليوم، بل تشاركه في هذه المأساة أيضاً أخته (الطالبة) ، فهي الأخرى وجدها أولئك القتلة فريسة سهلة لتحقيق مآربهم الدنيئة.
وحتى لا يطول بنا الكلام أودُّ أن أشير إلى مثال يدلِّل على صحة قولي. وهذا المثال مفادُه: أنه كانت جماعة من المليشيات الطائفية قد اقتحمت مبنى الجامعة المستنصرية، واختطفت ثلاث طالبات؛ اثنتين من كلية الآداب وواحدة من كلية التربية، وعُثر على جثثهنَّ في مشرحة بغداد بعد اغتصابهنَّ والتمثيل بهنَّ، وقد تواتر الخبر ونقلته جملة كبيرة من وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت، وقد أحدث هذا العمل الإجرامي هزة عنيفة في الشارع العراقي، على مستوى المواطنين، ولن ينسى أهل بغداد تلك الصرخات المدوِّية التي أطلقوها بعد أن فجعهم خبر اغتصاب الطالبات الثلاث والذي انتشر في بغداد انتشارَ النار في الهشيم، معزِّين بعضهم بعضاً، وانتشرت صرخات (الله أكبر) يتبادلها الناس فيما بينهم عبر رسائل الجوال، مطالبة المخلصين بأخذ الثأر من تلك المليشيات التي لا تفتأ أن تعتدي على أرواح الناس وأعراضهم، ولم يقف الأمر عند هذا الحدِّ، بل تعدَّى الأمر إلى مستوى فصائل المقاومة، وقد أصدرت جماعة أنصار السنة آنذاك بياناً تطلب فيه من الطلبة عدم الاقتراب من جامعة المستنصرية؛ لأنها ستكون هدفاً لضرباتها بعد أن تحولت إلى وكر للمليشيات الطائفية؛ كما نقلت بعض الصحف ووسائل الإعلام.
وقد أدانت هيئة علماء المسلمين في العراق جريمة اختطاف الطالبات ومن ثم قتلهنَّ بعد اغتصابهنَّ وتعذيبهنَّ، وأخذ الفدية من ذويهم على أمل إطلاق سراحهنَّ (1) ، وحمّلت الهيئة ـ في بيان لها نُشر على موقعها على الإنترنت ـ قوات الاحتلال والحكومة الحالية والمسؤولين عن المليشيات الإرهابية المسؤوليةَ الكاملة عن مثل هذه الجرائم غير الأخلاقية التي ترفضها جميع الشرائع السماوية والأعراف الإنسانية، وطالبت بوضع حدٍّ لهذه الأعمال البشعة، ومحاسبة المجرمين.
وقالت (منظمة الدفاع عن المرأة في العراق) ـ وهي منظمة مستقلة -: إن الطالبات الثلاث اغتصبن بطريقة بشعة على أيدي مليشيات تستبيح بغداد، من دون رادع، وتستقوي على العراقيين بتغطية من بعض المراجع الدينية والأوساط الحكومية التي تدعمها؛ على حد قول المنظمة.
وقالت: إنَّ هذا مؤشر جديد على انحدار الجرائم منحدراً أخلاقياً غير مسبوق في العراق (2) أمام أعين وأسماع الحكومة العراقية التي لا تكاد تحرك ساكناً، وتبدي مزيداً من الضعف كل يومٍ أمام المليشيات التي تتحرك مستغلة أجهزة الحكومة وتجهيزاتها ووثائقها في تنفيذ جرائمها ضد العراقيين المغلوبين على أمرهم (1) .
واستنكرت (مؤسسة عز العراق لحقوق الإنسان) تلك الجريمة، وقالت: إنَّ هذه الجريمة يندى لها جبين الإنسانية؛ كونها جريمة هزّت الضمير الإنساني للمجتمع العراقي، لما تمثله من انتهاك صارخ للقيم الاجتماعية والأعراف والتقاليد والشرائع الوضعية والسماوية.
وناشدت مؤسسة (عز العراق) مجلسَ حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، والمنظمتين العربية والأوروبية لحقوق الإنسان، واتحاد المحامين العرب، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لإدانة هذا الفعل المشين، والعمل على وقف نزيف الدم العراقي الذي يتعرض له أبناء العراق عموماً والطلبة خصوصاً (2) .
وأدان (مؤتمر أهل العراق) - وهو إحدى التشكيلات المشاركة في الحكومة تحت قائمة التوافق ـ تلك الحادثة الجبانة، وقال في بيان له: تستمر المليشيات الطائفية الإرهابية بارتكاب أبشع الجرائم وأخسّها بحق أهل السنة، وبدعم من الخارج، وبلا مبالاة من حكومة المالكي، ضمن مسلسل طائفي مقيت يرمي إلى طرد أهل السنة من موطئ أجدادهم وآبائهم وديارهم في بغداد الرشيد، حيث بلغت الخسة والنذالة بهؤلاء المجرمين أن يقوموا باختطاف الطالبات من أهل السنة من جامعاتهن واغتصابهن وقتلهن ورمي جثثهن في دائرة الطب العدلي، وساق البيان الخبر آنف الذكر.
والغريب أن يظهر رئيس الجامعة المستنصرية (3) على شاشات التلفاز ينفي هذه الأنباء التي أشارت إلى اختطاف الطالبات من الجامعة المستنصرية، قائلاً: إنَّ تلك الأنباء عارية عن الصحة تماماً ولا أساس لها..، ولا داعي للتعليق على هذا النفي! ولا ندري هل قال ذلك بقناعة أم بضغوط عليه وهو الأقرب للصحة؟!
ثانياً: خطف الطلاب على الهوية:
وهذا أمر واقع في العراق أيضاً، ويكاد يعرفه القاصي والداني من أبناء الشعب العراقي، فمَنْ اسمه عمر - مثلاً - لا يستطيع الذهاب إلى جامعته؛ خشيةً من المليشيات الطائفية التي تقف في الطرقات وتفتش الشباب على الهوية أو اللقب أو منطقة سكناه، وإلى الله المشتكى.
ولنا على ذلك شواهد عديدة؛ فقد تحدث جمع غفير من الطلبة عن وجود نقاط تفتيش تدقق في البطاقات الشخصية للطلبة، وتعتقلهم على الأسماء، حتى تواتر القول عن الطلاب بـ: (إنَّ الوصول إلى الجامعات بات أمراً صعباً؛ بسبب تلك السياسة الحاقدة) .
وقد أكد المسؤولون أنَّ طلبة المحافظات العراقية ممن هم خارج بغداد انقطعوا عن الدوام في جامعات بغداد بسبب عمليات الاختطاف التي قد يتعرضون لها أثناء تنقلهم من جامعاتهم وإليها، وقد أكدت الدكتورة سعاد ياسين ـ المسؤولة عن دوام الطلبة في كلية العلوم بالجامعة المستنصرية ـ أن طلبة المحافظات انقطعوا عن الدوام، وذلك حسب ما نقلت صحيفة الحياة في عددها في 6/12/2006م، بالإضافة إلى تأكيد جمع من الأكاديميين بأن المشكلة سياسية، وإذا لم تُحلّ فإنَّ كارثة ستحل بالتعليم الجامعي في العراق، وهذا ما يؤكده ـ أيضاً ـ واقع الخبراء في العراق والمعاناة التي يلاقونها ليل نهار.
خبراء العراق
3 هجرة العقول: البداية والأسباب:
لم تكن هجرة العلماء من العراق وليدةَ الوضع المأساوي للبلد بعد الاحتلال، ومعلوم أن عدداً من الأساتذة هاجروا أيام كانت دولة العراق قائمة، وقد هاجروا إلى بلدان عربية وأجنبية متعددة. والواقع أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تفتأ تغازل علماء العراق منذ التسعينيات من القرن الماضي؛ بقصد استقطابهم إلى مراكز أبحاثها وجامعاتها ومختبراتها، وتم سنُّ قانون خاص لهجرة العراقيين صادق عليه مجلس الشيوخ الأمريكي في نوفمبر من عام 2002م ويقضي بمنح العلماء العراقيين الذين يوافقون على إفشاء معلومات مهمة عما يتعلق ببلادهم بطاقةَ الهجرة الأمريكية الخضراء، مستغلة بذلك الحصار المفروض آنذاك على العراق؛ كي تجعل من اللجوء إلى الدوائر الأمريكية حلاً معقولاً أمام العلماء الذين لا يطيقون الوضع البائس آنذاك.
ومما لا شك فيه أن هناك فرقاً كبيراً بين الهجرتين، فهجرة الأستاذ - في الغالب - قبل الاحتلال كانت أكثر ما كانت بسبب العوز المادي الذي كان يعاني منه الأستاذ، ويقدَّر راتب الأستاذ الجامعي قبل الاحتلال بما لا يتجاوز (عشرة دولارات) ، واستمر هذا الحال ما يقرب من عشر سنين، وبذلك يكون الأستاذ قد ذُبح بغير سكين جراء هذا العوز الذي طالما عانى منه أساتذة الجامعات. ولذلك نرى أن الأستاذ كثيراً ما كان يرد على فكره ترك البلد والهجرة في أرض الله بحثاً عن مكان يؤويه ويوفر له لقمة العيش الكريمة له ولعائلته. وقد اضطر قسم من أولئك الذين هاجروا إلى بيع كل ما يملك من مقتنيات للحصول على تأشيرة دخول وتذكرة الطائرة إلى الدولة التي كان يقصدها هو وعائلته.
أما الهجرة بعد الاحتلال فغالباً ما كانت بسبب ذلك الضيم والظلم اللذين طالا الأستاذ الجامعي؛ من اغتيال، أو خطف، أو اعتقال، أو تهديد بضرورة مغادرة البلد، أو اعتداء مشينٍ من قِبَل بعض الطلبة، وهكذا.
وكل هذه الأسباب لا تحتاج إلى أمثلة لتأكيدها؛ لأنها واضحة لكل متابع، سوى أنني أودُّ الإشارة إلى أن تهديد الطلبة لبعض الأساتذة والاعتداء عليهم بالضرب كان من أهم الأسباب التي تقف وراء هجرة الأستاذ الجامعي؛ لأنه أدرك أن قيمته العلمية وأسلوب التعامل الأخلاقي معه بدأ بالتخلل والتراجع، ففي جامعات العراق اليوم من السهل جداً أن يأتي طالب أو مجموعةُ طلابٍ ويعتدون على الأساتذة، كما حدث مراراً في جامعة بغداد؛ فعلى سبيل المثال - حسب بعض وسائل الاعلام - نذكر ما تعرض له أحد أساتذة كلية الإعلام بجامعة بغداد ممن يحمل درجة (الأستاذية = البرفسور) من ضرب من قِبَل ثمانية من الطلبة، وفي داخل مكتبه الجامعي، وطلبوا منه مغادرة الكلية باعتباره شخصاً غير مرغوبٍ فيه، وهذه الحادثة وقعت في الـ (20) من كانون الثاني (يناير) من عام 2005م.
3 لا تستغرب حينما تقرأ هذه الأخبار:
ومن الغريب أن هجرة الأساتذة والمفكرين قد تترافق مع عمليات الاغتيال أو الاختطاف وتداعياتهما، فقد يضطر الأستاذ إلى الهجرة بسبب ما يراه أمامه من اغتيال لزميله الذي كان يعمل معه، أو كانا يجلسان سوية في غرفة الأساتذة. وقد حدثت في العراق مآسٍ يندى لها الجبين، وأنقل عملية ذات رؤوس ثلاثة في آنٍ واحد؛ اغتيالاً، واختطافاً، وهجرةً، ففي الجامعة المستنصرية ببغداد حدث أن اختطف أحد أساتذتها - وهو الدكتور علي حسن مهاوش عميد كلية الهندسة - ثم وُجد مقتولاً بعد أيام، وكان أن قام إخوانه أعضاء هيئة التدريس بتشييعه، وأثناء عملية التشييع قُتل أحد الأساتذة أيضاً في قسم الهندسة الكهربائية، واختطف ثلاثة آخرون في اللحظة نفسها، بل وهاجر الدكتور عدنان كريم رجب فاراً بنفسه تاركاً أروقة الجامعة، ومودعاً قاعات الدرس؛ من أجل النجاة والسلامة (1) .
3 تقاريرٌ توضّح حجم الكارثة:
ذكرت تقارير أعدتها وزارة التعليم العالي والبحث العلمي العراقية أن عدد الأساتذة الذين غادروا البلد بسبب مخاوفهم قد تجاوز (3000) أستاذ جامعي وأكاديمي منذ الغزو الأمريكي للعراق في شهر نيسان 2003م؛ حسب ما نقلته صحيفة الحياة.
ونقلت صحيفة الرياض في 21/2/2006م أن الذين تمت تصفيتهم من الأساتذة الجامعيين العراقيين بلغوا (250) أستاذاً جامعياً، واختفى منهم مئات، وهرب عدد كبير يُقدّر بالآلاف.
ويبدو لي - والله أعلم - من خلال متابعتي أن إحصائية وزارة التعليم العالي غير دقيقة، فإنَّ عدد الأساتذة والأكاديميين الذين هاجروا يفوق ذلك بكثير، ولعلي لا أبالغ إذا قلت أن العدد الأقرب إلى الصواب هو أضعاف ما ذكرته الوزارة، خاصة وأن رابطة التدريسيين الجامعيين أكدت أنه غادر في السنة التي بعد الاحتلال (2004م) ما يقرب من 1250 أستاذاً؛ حسب ما نشرته جريدة (الشرق الأوسط) في عددها (9407) بتاريخ 30/أغسطس/2004م.
هذا إذا وضعنا في الحسبان بأن تلك السنة (2004م) كانت من أخف السنين عنفاً، وإن ما بعدها من السنين زاد فيه العنف والقتل أضعافاً مضاعفة، ويستدعي توفر فرصة الهجرة بشكل أكبر، مما يؤكد أن العدد زاد أربعة أضعاف على الأقل؛ لأننا في السنة الرابعة للاحتلال. وقد ذكر الأستاذ الدكتور أكرم المشهداني - أستاذ عراقي ومتابع - أن حوالي عشرة آلاف من أعضاء هيئة التدريس والباحثين وحملة الشهادات والأساتذة والعلماء أُجبروا على الرحيل من العراق منذ بدأ الاحتلال الأمريكي، والعدد في تصاعد.
ويؤكد قول الدكتور المشهداني ما نقلته بعض وسائل الإعلام عن مصدر مسؤول في وزارة التعليم العالي العراقية أن عدد الأساتذة الجامعيين والأكاديمين الذين غادروا العراق يصل إلى أكثر من عشرة آلاف أستاذ، وقال المصدر: إنَّ هذا العدد يشكّل رقماً مخيفاً، خاصة وأن الظاهرة مستمرة.
هذا في الوقت الذي تشير فيه بعض الأرقام المعلنة إلى أن حوالي 17 ألفاً من العلماء والأساتذة والأكاديميين قد أُجبروا على الرحيل من العراق منذ بداية الاحتلال.
الحرم الجامعي أضحى مباحاً في العراق الجديد!
المضايقات الأمنية المختلفة
وأثرها في التراجع العلمي والمعرفي
3 مضايقات وانتهاكات:
كل ما يمكن للعقل أن يتخيله ما فعله المحتل وأعوانه في أرض العراق! لا أتحدث هنا عن تلك الانتهاكات الإنسانية التي كان يمارسها المحتل عند مهاجمة المدن الآمنة، ولكني أتحدث هنا عن انتهاكات ارتكبت بحق أولئك الأخيار من الأساتذة والطلبة.. مداهماتٌ مستمرة لمساكن الأساتذة، وأخرى للأقسام الداخلية التي يسكن فيها الطلبة، مع ما يقوم به الاحتلال من انتهاك صارخ للحرم الجامعي في كثير من الأحيان!
فليس غريباً في ظل الفوضى الأمنية العارمة أن تداهم مساكن الأساتذة الجامعيين بحجج متنوعة، وأعذارٍ واهية، وقد شهدنا مثل هذه العمليات مراراً، ويطول بنا المقام عند حصرها، نكتفي بذكر مثال حدث في يوم تزامنت فيه جريمتان بحق السلك العلمي والأكاديمي في العراق، وهو يوم 24/كانون الثاني/2007م، وقد تزامن في هذا اليوم أن قتل أستاذ من كبار علماء وخبراء الاقتصاد - وهو الأستاذ ضياء المكوطر - ودُوهمت مساكن الأساتذة في الجامعة المستنصرية من قِبَل قوات الاحتلال الأمريكي - فضلاً عن مداهمة الحرم الجامعي - والتي جاءت بشكل مريع ومخيف؛ حيث قامت تلك القوات بتكسير الأبواب الخارجية، وتحطيم أثاث المنازل؛ بحجة البحث عن جماعة مسلحة (1) . أما مداهمة الأقسام الداخلية فقد قامت بها القوات الأمريكية وقوات الجيش الحكومي أكثر من مرة.
ومداهمة الحرم الجامعي وانتهاك مكانته أضحى أمراً عادياً، ولا تفتأ أن تقوم قوات الاحتلال أو الحكومة أنَّى شاءت ومتى شاءت أن تدخل باحات الحرم الجامعي بآلياتها وعدّتها وتعتقل أو تفتش أو تقتل.. ولطالما اتخذت قوات الاحتلال بعض مباني الجامعات مقرات وثكنات عسكرية لها، فمن ينظر اليوم إلى جامعة الأنبار وكلياتها - مثلاً - لا أعتقد أنه سيتمالك نفسه إلا بعد أن تدمع عينه بسبب تلك المناظر المؤلمة التي يشاهدها جراء الأعمال الهمجية التي يقوم بها الاحتلال وأذنابه.. بالإضافة إلى الجامعات والكليات الأخرى التي تعرضت مراراً للمداهمة والتفتيش؛ كما في جامعة بغداد، والجامعة المستنصرية، والنهرين، وكلية المأمون، وكلية الإمام الأعظم، والجامعة الإسلامية وغيرها..
3 قطعوا الطرق فانقطعت مسيرة التعليم!
إنَّ وضع الطلاب اليوم في العراق ينحدر إلى الهاوية في ظل المستقبل المجهول، وبخاصة وضع الطالبات في الجامعات العراقية الذي يكاد يقترب من الوضع المأساوي بسبب غلق مداخل الجامعات، ونقاط التفتيش والحواجز التي تقيمها قوات الاحتلال والجيش الحكومي، فمَنْ مِنْ شابات العراق ترضى أن يُفتش بدنها من قِبَل غريب؟ إنَّ شكوى ودعوات الطالبات بهذا الخصوص وصلت إلى السماء، لكنها لم تلامس بعد نخوة المسؤولين في الحكومة العراقية الحالية، فقد تحدثت إحدى الطالبات عن خروجها من بيتها الساعة الثامنة صباحاً للوصول إلى الكلية، لكن دبابة أمريكية تغلق مدخل الجامعة الذي يؤدي إلى الكلية، تقول: وأنا أخشى الاقتراب من الدبابة الأمريكية، ولا أعلم هل أرجع إلى المنزل أم أنتظر حتى تذهب هذه الدبابة.. ولا أستطيع الدخول إلى كليتي؟ وأشارت تقارير كثيرة - حسب إسلام أون لاين - إلى أن سوء الأوضاع الأمنية، وكثرة قطع الطرق، وازدحام المرور بسبب ذلك القطع؛ كل ذلك أثّر وبشكل كبير على المسيرة الدراسية وطريقة انتظامها.
وتداعيات قطع الجسور والطرق تتمثل بتأخير الطالب المستمر عن حصصه الدراسية، بالإضافة إلى تأخره عن أداء الامتحانات في ساعاتها المحددة.
ولا نبالغ إذا قلنا إن ظاهرة قطع الطرق ونصب حواجز التفتيش عليها قد أسهما وبشكل خطير في ترك قسم كبير من الطالبات مقاعدهنَّ الدراسية؛ لأنهنَّ أصبحن عرضة للتفتيش لتجاوز تلك الحواجز، بما تنكره شريعتنا الغراء، وتقاليدنا العربية الأصيلة، والأخلاق الفاضلة!
سياسة الأحزاب
تغزو صروح العلم في العراق!
3 أقوال بلا أفعال:
في تأكيد الحكومة الحالية على عدم السماح للجامعات العراقية بأن تكون ساحة للصراعات السياسية تأتي تصريحات وزير التعليم العالي والبحث العلمي؛ حيث قال: إننا لن نسمح باستخدام أروقة الجامعات ساحات صراع بين الأطياف السياسية والمذهبية المختلفة في البلاد (1) .
وأشار بعض الأساتذة الجامعيين إلى أنهم يلمسون الآن اتجاهات عديدة في الجامعات العراقية، فبعد أن كانت الجامعة أسيرة الحزب الواحد، أصبحت الآن أسيرة أحزاب متعددة، متمثلة بتوجهات الطلبة والأساتذة، بل وحتى الموظفون الذين لا يألون جهداً في ممارسة نشاطاتهم الحزبية داخل الحرم الجامعي.
ونشاط الحركات والتيارات والأحزاب الدينية - كما يقال - واضح جداً، فأضحى واضحاً لدى الجميع أسباب مقتل العدد الكبير من الأساتذة والطلبة.
3 طلبةٌ أحرار يرفضون التبعية:
وقد عبَّر طلبة العراق أكثر من مرة في مظاهرات عديدة عن غضبهم بسبب تحول بعض الجامعات إلى مسارح لتصفية الحسابات السياسية بين الأحزاب العراقية؛ ومن هذه المظاهرات مظاهرة حاشدة انطلقت ببغداد صباح 4/11/2003م، واشترك فيها عدد كبير من الطلبة من أهمِّ مكونات الجامعات العراقية - كجامعة بغداد والمستنصرية والتكنولوجية - الذين تظاهروا أمام مقر قوات الاحتلال، ومجلس الحكم العراقي المؤقت ـ آنذاك ـ احتجاجاً على ما أسموه بـ (استغلال الحرم الجامعي لتصفية الصراعات السياسية في العراق) .. وهذه واحدة من كبريات المظاهرات التي تنطلق عادة في كل مناسبة، يؤكد فيها الطلبة استنكارهم الشديد لتدخل الأحزاب السياسية في مسيرتهم التعليمية.
3 الطلبة ضحايا التوجهات السياسية:
بقي علينا معرفة ذلك التأثير الذي تخلّفه حركة الأحزاب الكاتبة والسياسية على عقل الطالب الجامعي وطريقة تدريس الأستاذ تتبعاً للمخاطر التي يعيشها الاثنان معاً، فقد أشار جمع من الأساتذة إلى خطورة هذا الجانب، يقول الأستاذ ناظم عودة - أستاذ الأدب الحديث في جامعة بغداد -: لا يمكن أن ننكر وجود نشطاء للأحزاب والتيارات السياسية في الجامعات العراقية، وهذه الحقيقة التي يؤكدها كل منتسبي الجامعة: أساتذة وطلبة وموظفين، وهي سبب مباشر لتدنِّي المستوى العلمي، وبروز ظواهر غير صحية في (الحرم الجامعي) . إنَّ اغتيال العديد من الأساتذة والطلاب وبعض من يشغل مناصب إدارية رفيعة هو أحد التجليات البشعة لهذه الهيمنة الجديدة، ولعلَّ الأخطر من هذا هو الاعتداء على منزلة الأستاذ الجامعي من قِبَل موظفين أو طلاب ينتمون إلى أحزاب بعينها، لقد سبّب تدخل الأحزاب وميليشياتها التي تتخفى بازدياد الوظيفة أو التعليم اضطراباً في العملية التدريسية ذاتها؛ فتحولت المحاضرة إلى نوعٍ من الحرب بين الطالب والأستاذ، وانعكس هذا بدوره على انخفاضٍ في مستوى التحصيل العلمي للطالب، ولعل الأخطر من هذا هو الهيمنة الأيديولوجية لهذه الأحزاب على النشاط الثقافي في الجامعة، والذي كان نشاطاً مستقلاً يرفد الثقافة العراقية بالعديد من الكتّاب والأدباء والباحثين المؤثرين، أما الآن فتحولت الثقافة داخل الجامعات إلى ثقافة طقسية، معدّة للاستهلاك، وفي أحيان كثيرة تكون مناسبة لإثارة بعض المشاكل بين الطلبة أنفسهم.
إنَّ الرؤية المستقبلية لوضع الجامعات في ظل هذا التدخل تبدو أمراً مرعباً، ولذلك فإنَّ المخرج الحقيقي لهذه الأزمة هو أن تكون الجامعات مكاناً علمياً بحتاً مستقلاً، مخصصاً لطلب العلم، ونيل الثقافة، تخرج دفعات من حملة النور والمعرفة ممن يؤثرون في المجتمع وتكوينه العلمي والثقافي.
إنَّ النظام الإداري والعلمي للجامعات العراقية يحتاج إلى مراجعة دقيقة، يشترك فيها المختصون والقانونيون والأساتذة والطلاب أنفسهم لرسم سياسة علمية وثقافية وقانونية تستند إلى مرجعية دستورية تحمي الطالب من الاعتداء المعرفي والفكري والثقافي، وتحمي الأستاذ في ممارسة حريته في طرق أيِّ موضوعات ذات محمول علمي أو تاريخي من دون أيِّ حرج أو مضايقة.
إنَّ الجامعة هي الوجه الحضاري للبلد ومقياس نهضته وتطوره، فإذا ما أردنا لهذا الوجه أن يكون دائم النظرة، فيلزم أن نغذيه غذاءً ناصحاً، الذي يستمده من حرية الطالب والأستاذ ومن التزود بأجود أنواع العلوم والمعارف والثقافات. وتحرير الجامعات من الهيمنة الحزبية إنما هو تحرير للعقل العراقي من المؤسسة الحزبية التي تدجن العقل وتستعبده.
تلك عينة من آراء أساتذة الجامعات العراقية، وبدوري الآن أنقل رأي الطالب هو الآخر في هذا الصدد حتى تكتمل الرؤية بجوانبها كافة؛ ففي معرض الحديث عن الأحزاب وتدخلاتها في الأكاديمية الجامعية وتهميشها مقابل الصبغة السياسية يشير الطالب طلال عبد الهادي - طالب دراسات عليا في جامعة النهرين - إلى أثر هذه الأحزاب، وقال: من الممكن أن يلاحظ أي شخص يدخل الحرم الجامعي تأثير الأحزاب داخل الجامعة، متمثلة بالأستاذ المسيّس، بمعنى رؤية اضمحلال الصبغة الطائفية، حتى ترى الطلاب منقسمين فيما بينهم انقسامات شتى، وبدأ الطالب يشاهد لافتات متنوعة على أسوجة الجامعات الخارجية والداخلية؛ فهناك لافتات تحمل أسماء أو اتجاهاً معيناً، وثانية تحمل اتجاهاً آخراً، وأخرى تحمل اتجاهاً يناقض الاثنين.. وهكذا، حتى أصبحت الجامعات تضم بين ثناياها حركات طلابية متنوعة الأشكال، ومما هو مؤكد أن تلك الحركات مدعومة مسبقاً من الأحزاب السياسية أو الدينية المعروفة في العراق، ومن ثم يكون أولئك المنتمون خطراً كبيراً؛ مما بدأ يتضح لدى جميع الطلبة خوف الأساتذة من هؤلاء الطلبة، ليشكل هذا عامل ضعف كبير في العلاقة بين الأستاذ والطالب، فبدأ الأستاذ من أجل رغبة البقاء على حياته إنجاحَ أكبر عدد ممكن من الطلبة على حساب المستوى العلمي.
والأدهى من ذلك والأمرّ أن هناك من الأساتذة أنفسهم من ينتمي إلى مثل تلك الأحزاب السياسية أو الدينية، مما زاد الهوة بين الأستاذ والطالب، وأدى هذا ـ من ثم ـ إلى تغيير طريقة البحث العلمي من طريقته المثلى إلى طريقة أقرب ما تكون إلى طريقة تلقينية بعيدة كل البعد عن روح البحث العلمي الجادّ والاجتهاد، ومن أجل أن لا يدخل الأستاذ في إرباكات مع بعض الطلاب بدأ يستنسخ أغلب محاضراته ويوزعها على الطلبة، لتتحول قاعة الدرس إلى إرشادات بعيدة عن المنهج العلمي؛ وإلى الله المشتكى.
3 أمركة الجامعات العراقية: الغاية والطموح!
ومما له صلة وثيقة بموضوع تسييس الجامعات تأتي تلك الخطة المفضوحة لما يسمى بـ (أمركة الجامعات العراقية) . وقد أعرب الأساتذة وطلبة الجامعات في أكثر من مناسبة رفضهم القاطع لتلك الفكرة التي تسعى من خلالها قوات الاحتلال إلى إضاعة التاريخ المشرق للبلد والتلاعب بالمناهج التي رسمت حضارة بلاد الرافدين. وفي الوقت الذي رحب فيه أساتذة جامعيون بالتعاون مع الجامعات الأمريكية رفض الدكتور فائق جواد العزاوي - نائب رئيس جامعة النهرين ببغداد - مبدأ أمركة الجامعات العراقية، وقال: لكننا نرحب بالتعاون مع الجامعات الأمريكية، في إطار التعاون في الخطط والمناهج والأبحاث والدراسات العليا، وتبادل الزيارات والمنح الدراسية، واتفاقات التوأمة.
وأضاف العزاوي أيضاً: إن سلطات الاحتلال الأمريكية تفكر منذ أن وطئت أقدامها مدينة بغداد في تحويل جامعة النهرين ببغداد إلى جامعة أمريكية على غرار تلك الجامعات التي تسمى باسمها في لبنان ومصر.. وأشار إلى أن الأمريكيين لاحظوا أنَّ هذه الجامعة تختلف عن باقي الجامعات العراقية، وأن أسلوب الدراسة فيها أقرب ما يكون إلى النظام الأمريكي (1) ، على أن أساتذة عراقيين من جامعات مختلفة قد قاموا بالتنسيق لإعداد حلقة وصل مع المسؤول الأمريكي المشرف على وزارة التعليم العراقية للتوصل إلى اتفاق توأمة بين الجامعات الأمريكية والجامعات العراقية، مدعين أنه يأتي في إطار التعاون المطلوب من أجل الارتقاء بالمستوى التعليمي (2) ، وهذا مثال واحد من رفض جمهور الأساتذة الجامعيين لمبدأ أمركة الجامعات.
إننا نشك كثيراً في مثل هذا التنسيق المبطن الذي يراد من خلاله تغيير هوية الجامعات العراقية التي يمتد تاريخها لمئات السنين، وإن مجرد التفكير في إقامة مثل هذه الاتفاقيات يعني تراجعاً كبيراً في مستوى التفكير الذي يتمتع به أمثال هؤلاء الأساتذة، ولذلك جاء الرفض من الشارع العراقي لمثل هذه المشاريع المبطنة، كما جاء الرفض من طلبة الجامعات العراقية أنفسهم، ففي استطلاع أجراه موقع (إسلام أون لاين) أشار فيه عدد كبير من الطلبة إلى رفضهم القاطع لمثل هذه المشاريع، وأكدوا على أن العراق بلد له استقلاليته وحريته، وليس من المطلوب أن تكون الجامعات العراقية تابعة للجامعات الأمريكية، وإن الأساتذة العراقيين يتمتعون بكفاءة عالية ولهم القدرة على مواكبة التطور الذي يشهده العالم الغربي، وخاصة تلك الجامعات الأمريكية.
ومما يذكر أن مجموعة (كرييتف أسوشييش إنترناشيونال) ومقرها الولايات المتحدة الأمريكية قد حصلت في الـ 11/4/2003م على عقد مبدئي لمدة عام بقيمة مليون دولار لتطوير النظام التعليمي في العراق، وقالت المجموعة: إنها ستحاول تعزيز (نظام تعليم أكثر ديمقراطية) ، في إطار الخطة الأمريكية لإعادة صياغة المناهج التعليمية؛ ليس في العراق فحسب، بل في المنطقة كلها.
إنَّ الانفلات الأمني الذي عمَّ العراق بعد دخول المحتل وسيطرة الاحتلال على كافة المرافق الخدمية والتعليمية هو الذي جعل الأمريكيين يفكرون بمثل هذه المشاريع؛ لأن الجامعات العراقية قد شهدت حالة من التردي والفوضى ما لم تشهده جامعة من أي جامعات العالم على الإطلاق، وانفلات الأمن كما ساعد على التفكير بتلك المشاريع ساعد أيضاً على أن تكون حرم الجامعات مأوى لتجمُّع القوات المحتلة داخلها واتخاذ ساحاتها ثكنات عسكرية تنطلق من خلالها، وإلا ففي أي وقت نسمع أن جندياً أمريكياً يُقتلُ داخل حرمٍ جامعي! فعلى سبيل المثال: أفادت تقارير عن أن جندياً أمريكياً توفي متأثراً بجراحه بعدما أصيب يوم الأحد الموافق 6/7/2003م إثر تعرضه لهجوم شنَّه مسلَّحون مجهولون داخل حرم جامعة بغداد، حتى وصفت تلك التقارير بأن هذا الهجوم يُعدّ الأول من نوعه الذي يقع داخل الحرم الجامعي.. إنَّ التداعيات التي خلَّفتها تلك العملية تتمثل بقيام قوات الاحتلال باحتجاز آلاف الطلبة بجامعة بغداد، لتحاصر الحرم الجامعي إثر ذلك الهجوم؛ حسب وسائل الإعلام.
وكانت إذاعة الـ (بي بي سي) قد نقلت عن شهود عيان أن جنديين أمريكيين كانا يتحدثان مع بعض الطلبة عندما جاء شخص من خلفهم، وأخرج مسدساً، ثم أطلق الرصاص من مسافة قريبة ليصيب أحد الجنود في الرأس، ثم لاذ بالفرار.. وتحدث بعض الطلاب بأنهم رأوا الجندي الأمريكي ينزف دماً وهو ممدد على الأرض.
ولا يتوقف الأمر عند مسلسل التدمير والنهب والتدهور الأمني الذي شهدته الجامعات فحسب، بل يتعدى ذلك إلى ما رافقه من مظاهر مقززة لنشر الأسلاك الشائكة والمتاريس والمطبَّات الاصطناعية داخل الحرم الجامعي حتى بدت الجامعات وكأنها أشبه ما تكون بالمعسكرات التعليمية.
لا؛ بل إنَّ بعض تلك الجامعات قد حُوِّل فعلاً إلى معسكر أمريكي كبير؛ كما في جامعة الأنبار، فقد رأيت بعيني تلك الحواجز العسكرية التي تقيمها تلك القوات على الباب الرئيسي الوحيد الذي يمكن أن يصل الطلبة من خلاله إلى كلياتهم وأقسامهم التعليمية، حتى إنَّ الطالب لا يستطيع الوصول إلى باب الجامعة إلا بعد قطع مسافة تقدر بثلاثة كيلو مترات، وعبور حاجزين عسكريين يتعرض فيها الطالب إلى أفضح عمليات الإهانة وهدر الكرامة بحجة التفتيش. وهذه الحالة مرت بي يوم أن كنت أراجع رئاسة الجامعة هناك قبل أشهر.
وبناءً على كل ما تقدم اشتكى مئات الآلاف من الطلبة من هذا الوضع المأساوي الذي تشهده جامعاتهم، ولطالما أعرب الطلبة بأنهم لا يستطيعون الاستمرار بدراستهم والحال هذه؛ لأن القوات الأمريكية تتجول داخل حرم الجامعة بأسلحتها ودباباتها وآلياتها العسكرية دون مراعاة لمشاعر الأساتذة أو الطلبة.. حتى قال بعض الطلاب الجامعيين: (إنَّ الأمر قد يتطور، ويدخل جنود الاحتلال معنا إلى قاعات الامتحان) .
وقد تحدث بعض الأساتذة عن غضبهم وتألمهم من وجود الدبابة الأمريكية في جامعتهم، حتى قالت أستاذة علوم الحياة بجامعة بغداد الدكتورة آمنة سعيد: (لا نعلم سبب هذا الوجود العسكري داخل حرم الجامعة، يجب أن يفهم الأمريكان أنَّ جامعتنا ليست معسكراً لقواتهم) .
جامعات العراق تنهبُ..وقواتُ الغزو تتفرج
3 حملة الهمجية الشعواء:
كانت الجامعات العراقية في أغلب محافظات البلد قد تعرضت لحملة كبيرة من عمليات السلب والنهب، وأفرغت من محتوياتها وأثاثها ومختبراتها، حتى اضطرت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى تأثيث أغلب الجامعات من جديد بعد الاحتلال، وقد أعلن الدكتور زياد أسود وزير التعليم العالي العراقي ـ الذي تسلَّم منصبه بعد الاحتلال بخمسة أشهر تقريباً ـ أنه تمكن من الحصول على بعض المساعدات البسيطة لإعادة تجهيز الجامعات التي تمَّ نهبها عقب الاحتلال في 9/4/2003م، وقال: إنَّ الكثير من الجامعات لا تزال ينقصها الكثير حتى نستطيع أن نقول إن وضعها عاد كالسابق، وقال أيضاً: إنَّ بعض الكليات قد نهبت بالكامل؛ كالجامعة التكنولوجية ببغداد.
3 تحالفُ السرَّاق والغزاة:
ومن الجدير بالذكر أن (84%) من البنى التحتية لمؤسسات التعليم العالي قد تعرضت للأضرار جراء الحرب، وأعمال السلب والنهب التي طالت عموم الجامعات (1) .
والغريب أن تلك العمليات طالت مؤسسات التعليم، مع تفرج واضح للجنود الأمريكان، الذين اتخذوا من الجامعات العراقية مكاناً لهم منذ اللحظة الأولى لاحتلال العراق.. ولذا؛ فإنَّ عمليات السلب والنهب التي طالت الجامعات العراقية في يومٍ من الأيام ألقت بظلِّها على تعليمٍ يفتقر إلى أبسط مقومات النجاح، فالطالب الذي يدرس في الأقسام العلمية يفتقر الآن إلى تلك الأجهزة المتطورة التي تؤهله لأن يكون ناجحاً في مسيرته الدراسية فيخدم مجتمعه وأمته، والطالب الذي كان يجلس في قاعات التدريس في جوٍّ ملائم هو الآن يجلس في قاعة تبلغ درجات الحرارة فيها ما يتجاوز الـ (50) درجة مئوية.
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن (84%) من مؤسسات التعليم العالي في العراق قد حرقت أو نهبت أو دمرت، علماً بأن النظام التعليمي في العراق كان الأفضل في المنطقة، وأن أهم ثروات العراق كان المستوى التعليمي المتقدم لأبنائه (2) .
والجدير بالذكر: أن مكتبات الجامعات نالت النصيب الأوفر من عمليات السلب والنهب، حيث تعاني مكتباتنا من فقر كبير للمصادر العلمية التي يستعين بها الطلبة على إتمام بحوثهم أو أطاريحهم العلمية، وقد أوضح الدكتور طلال الزهيري - أمين عام المكتبة المركزية بالجامعة المستنصرية - أن مكتبة المستنصرية فقيرة من المصادر العلمية التي يحتاجها الطلبة؛ كونها قد نهبت بعد الاحتلال، وقد أعيد إليها ما يقرب من 140 ألف كتاب، ومع ذلك لا تزال تعاني الفقر (3) .